استعاد المشهد الثقافي- الإبداعي السعودي في ذاكرته السردية، التجربة الروائية للشاعر علي الدميني، الذي رفع تلويحة الوداع الأخيرة تاركا غصة ولوعة من أسى فادح في قلوب محبيه الإثنين الماضي 25 أبريل، ووري -رحمه الله- جثمانه الثرى الثلاثاء في مدينة الدمام، حيث مثلت روايته «الغيمة الرصاصية»، الصادرة عام 1998 مغامرة لافتة لاسم مكرس في حقل الشعر منذ السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، كواحد من طلائع تجارب القصيدة الحديثة في السعودية، بعد تجربة الشاعر الآخر غازي القصيبي «1940 - 2010» الروائية، الذي أسهم بفاعلية في بعث الإبداع السردي راوئيا مجددا في السعودية مع مطالع التسعينيات، بعد فترة كمون ، وكان له قصب السبق إلى جانب تجربتي عبد العزيز مشري «1955- 2000» ورجاء عالم، السابقتين عليه بوقت قصير، وهو الوقت الي شهد ايضا صدور تجربتي عبد العزيز الصقعبي وأحمد الدويحي. وكلها تجارب تتصل وتمتد لعام 1930 الذي شهد ظهور" التوأمان" اول عمل روائي في السعودية على يدي عبد القدوس الأنصاري " 1906م - 1983".

الذيوع والانتشار

تجربة الدميني في «الغيمة الرصاصية» لم تحظ -حسب مراقبين- بما تستحقه من ذيوع ومقروئية وانتشار، وربما يرجع ذلك لعوامل متداخلة لعل أوضحها، عدم وجود تيار متابعات نقدية جاد وحيوي، مواز لما عرف إعلاميا بـ«الانفجار الروائي» الذي عاشه المشهد الإبداعي السعودي مع نهايات التسعينيات حتى انقضاء العشرية الأولى من الألفية الثالثة تقريبا، واقتصار الحراك النقدي على جهود «فردية» واجتهادات مشتتة، لم يتوافر لها هامش، أو تجترح فضاء جادا وعلميا نزيها يجادل المنتج الروائي ن بمعزل عن حسابات المكتسبات وغوايات ، أو اشتهاءات - إن اردت - "النجومية السينمائية"، وبالتالي لم تشكل تلك الجهود الفردية - على صدقية ومنهجية وعمق بعضها - تيارا يؤسس مسارات حقيقية/ موضوعية ، تمتلك قدرا ولو في ادنى مستوياته، لمواكبة الإنتاج السردي الكبير «كميًا على الأقل»، والذي استمر على مدى عقد من الزمان.

ثانيا أن الإصدار جاء قبل شيوع «موجة الترويج الرقمي» التي لعبت دورا جوهريا في معادلة الإشهار لكثير من لأعمال والمحاولات الإبداعية في معظم العقدين الأخيرين، وأخيرا انصراف الدميني - رحمه الله - لانشغالات أخرى منها ماهو متعلق بحقله الأول «القصيدة»، ومنها ما هو متعلق بالشأن العام، ولكن ذلك كله لن يغيب القول بتميز عمله الروائي، عن بقية شعراء آخرين، أغوتهم أضواء اللعبة السردية، فجربوا حظهم في اقتراف العمل الروائي.

لعبة تجريبية

لعل القارئ لـ«الغيمة الرصاصية»، تستوقفه أول ما يستوقفه الرافعة اللغوية للعمل، مشكلة أسا رئيساله ن من حيث هي استعارية/ مجازية، ومستجيبة لمعظم تقنيات وفنون «محسنات البديع» العربية، وهذا طبيعي، كون الكاتب آت من حقول القصيدة، وتكوينه الأدائي تعبيريا، مرجعيته شعرية محضة أولا، وأمر آخر يقتضي تحققه غائية العمل ورؤيته، بدءا من العنوان المعبر عن متن النص والمنبنى -طبقًا لمنى العنزي- على المفارقة فـ«الغيم يوحي بالحياة والمطر، والرصاص يوحي بالموت والهلاك، كما عكست الرواية في مساحات منها حالة المثقف مع المجتمع وأساليب القمع ومصادرة الحرية».

بينما يذهب الروائي صلاح القرشي - صاحب إحدى التجارب السردية المهمة في الانفجار الروائي، وأحد المنصرفين عن اشتهاءات الحضور المجاني والنجومية المبتذلة - إلى أنه «مع أول صفحات الرواية سنكتشف أننا أمام عمل مختلف لا من جهة التكنيك الفني فقط، بل من جهة الروئ والأفكار»، ويضيف القرشي لافتا إلى اللعبة التجريبية التي خاضها الدميني «نحن أمام رواية تستحق أن يتعب القارئ نفسه من أجلها قليلا، ليس هذا لأنها رواية صعبة أو ملغزة وعصية الفهم، لكن لأنها فقط رواية غير مألوفة! وهذا وحده يكفي القارئ المهتم لكي يتعب قليلا من أجلها.

حياة أخرى موازية للنص

يتابع صلاح القرشي طرح رؤيته - كنموذج للمشار إليه أعلاه من جهود فردية في تقصي اللافت من التجارب الروائية الصادرة إبان العقدين الأخيرين- فيقول:

في «الغيمة الرصاصية» نحن أمام ثلاثة نماذج من الشخصيات، شخصيات يفترض أن بطل الرواية سهل الجبلي هو من صنعها في نصه العجيب، عزّه (نص داخل نص)، الأول يفترض أنه مكشوف، والآخر (عزة) هو النص المموه والمجهول الذي تتمرد شخصياته على واقعها، يقول سهل الجبلي لنفسه: «وقفت أتأمل نص عزة في الذاكرة، وأتساءل هل يمكن لواقع أن يشابه نصه أو لنص أن يقترب من واقعه»، لكن شخصيات (عزة) تمردت على واقعها وخرجت من النص تشاغب حياة الكاتب. هكذا نرى عزّة تخرج من النص لتشارك الكاتب منزلة، بل تنام بينه وبين زوجته، ثم لا تلبث أن تعود لخزانة الكتب، ثم لا يلبث مسعود الهمداني أن يختطف الكاتب ذاهبًا به إلى وادي الينابيع، حيث دارت أحداث نص عزة هناك يلتقي الكاتب ببقية شخصيات نصه المتمردة عليه، والتي تحاول تشكيل حياة أخرى موازية للنص المكتوب وخارجه عليه. سقوط الحلم النموذج الثالث من شخصيات الرواية يمثله الراوي الحقيقي (علي الدميني) نفسه، والذي يفترض أنه يمتلك في النهاية مصير سهل الجبلي، حيث يمكننا أن نسأل أنفسنا هنا.. وما هو الفرق بين سهل الجبلي نفسه وبين شخصيات قصته المتمردة عليه، والتي تشاركه واقعه الفنتازي، وما هي العلاقة بين الراوي نفسه وبين سهل الجبلي، حيث يكتب علي الدميني سهل الجبلي ويكتب الجبلي «عزة»، وحيث نرى مشروع الجبلي يسقط مرتين، مرة أمام السلطة، حيث يتم القبض على أعضاء التنظيم ويضيع الحلم، ومرة أمام شخصيات نصه، حيث يخاطبه ابن عيدان (أحد شخصيات القصة المفقودة وهو زعيم وادي الينابيع) يقول له ابن عيدان: «علمت مما بلغني من نص عزّة أنك تخالفني الرأي فيما أقوم به، وأنك قد أوهمت أبطال قصتك بأدوار خطرة لتغيير ما ألفناه، وقام بحكم العادة كقانون لوادينا».

ويختم القرشي رؤيته واصفا الرواية بـ«تكاد تكون رثاءً سرديا للكثير من الأحلام الموءودة!»، قائلا: الرواية تستحق قراءات نقدية متمكنة وعميقة، لأنها إلى جانب حداثتها التكنيكية، تمر على أحداث مهمة ومؤثرة، كغزو العراق للكويت وسقوط الحلم القومي أو العروبي، وتناقش الكثير من الأفكار، - دون أن يقول القرشي،بنفس تقريري لا يخلو من ادلجة - كالديمقراطية والتعددية والحرية، والتشدد بنوعيه الديني والسياسي.

علي غرم الله الدميني الغامدي.

(1948 - 2022)

- شاعر وروائي وكاتب وصحافي

- ولد ونشأ في الباحة ( جنوب السعودية).

- أكمل دراسته الثانوية بمدرسة الفلاح في جدة.

- بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن 1974.

- عمل نحو 8 سنوات في أرامكو.

- انتقل للعمل بالبنك الأهلي التجاري العام 1984.

- أشرف على ملحق (المربد) الثقافي بجريدة اليوم مطالع الثمانينات.

- أسس -بمعية عدد من المثقفين - مجلة (النص الجديد) 1993.

من أعماله:

- «رياح المواقع» ديوان شعر 1987.

- «بياض الأزمنة» ديوان شعر 1999.

- «بأجنحتها تدق أجراس النافذة» ديوان شعر 1999.

- «إشراقات رعوية لجسد الماء» مختارات شعرية 2018.

سرديات:

- الغيمة الرصاصية: أطراف من سيرة سهل الجبلي 1998.

- أيام في القاهرة وليال أخرى 2006.

- زمن للسجن: أزمنة للحرية 2005.