بأي «نصر» تحتفل روسيا اليوم 9 مايو، النصر على النازية الهتلرية الذي تحقق قبل سبعة عقود بمساهمة رئيسية للولايات المتحدة ودول غرب أوروبا، أم النصر الذي لم ينجز بعد على الدولة الجارة أوكرانيا وكان «اجتثاث النازية» فيها واحداً من أهداف غزوها، كما حددها فلاديمير بوتين؟ كان البابا فرنسيس أبدى عزماً على زيارة موسكو ولقاء الرئيس الروسي لمطالبته بوقف الحرب، لكن رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان اتصل بالبابا، بتكليف روسي على الأرجح، لإبلاغه بأنه لا داعي لزيارته، لأن بوتين سيعلن في «يوم النصر» هذا «انتهاء الحرب».

كانت تلك طريقة دبلوماسية لرفض استقبال البابا، الذي ألغى خططاً للاجتماع في القدس مع البطريرك الأرثوذكسي الروسي كيريل الأول الذي بارك غزو أوكرانيا.

لكن هل أن الحرب في صدد الانتهاء فعلاً، أم أن بوتين يريد أن يوقفها في هذه المرحلة ليدقق في ما حققه حتى الآن وليختبر مدى استعداد خصومه لمراجعة حساباتهم قبل أن تستأنف في مرحلة ثالثة أكثر خطورة؟

واقعياً، كانت المرحلة الأولى انتهت بقرار أحادي روسي بعد إدراك صعوبة اجتياح كييف وتعقيداته، وكان الدمار الهائل لمعظم المدن الحيوية الموالية لكييف هو «الجائزة» التي ظفر بها الغزاة. أما المرحلة الثانية التي رسم لها هدف «تحرير كامل أراضي جمهوريتي دونباس» شرقي أوكرانيا فلا مؤشرات بعد إلى أنها انتهت، إلا إذا كانت موسكو ترى تلك النهاية في سقوط ماريوبول بفعل التدمير الشامل والحصار المطبق على معقل المقاومة الأوكرانية الصلبة في مجمع «آزوفستال».

فمنذ بداية الغزو كان تأمين ممر بري لشبه جزيرة القرم (ضمتها روسيا في 2014) من الأهداف الإستراتيجية الروسية، وعنى ذلك ضرورة إحكام السيطرة كلياً على الشريط الممتد من جنوبي دونباس بدءاً من ماريوبول وامتداداً إلى بيرديانسك وميليتوبول لإغلاق بحر آزوف وإزالة الوجود الأوكراني على ساحله الشمالي الشرقي، وصولاً إلى خيرسون وميكولاييف على البحر الأسود غرباً لتأمين الممر البري إلى القرم. هذا الشريط بات تحت السيطرة الروسية، وبتخطيه «الحدود الإدارية» لإقليم دونباس يصبح بالمفهوم العسكري «مدىً حيوياً» للنفوذ الروسي.

لكن هذا لا يشكل نهاية المطامع الروسية، إذ يؤشر استهداف أوديسا بالقصف إلى أن الروس يريدون فعلاً حرمان أوكرانيا من كل موانئها الجنوبية، وبالتالي خنقها اقتصادياً وتجارياً.

تقع أوديسا، ثالثة كبرى المدن بعد كييف وخاركيف، في أقصى الغرب على البحر الأسود، ويعتبر ثلث سكانها «جالية روسية» مهمة.

ويعني امتداد الغزو الروسي إلى أوديسا بلوغه حدود مولدافيا والشروع في تشكيل تهديد مباشر لها. في أبريل الماضي بدأ قادة حلف الأطلسي يحذرون من «زعزعة الاستقرار» في مولدافيا، الدولة الصغيرة التي كانت من الجمهوريات السوفياتية واستقلت كسواها عام 1991 وهي عبارة عن جيب داخل الأراضي الرومانية بلا منفذ بحري وترتبط بالاتحاد الأوروبي من خلال رومانيا.

أما الأداة الجاهزة للتهديد فهي «جمهورية ترانسنيستريا» الانفصالية، الموالية لروسيا والناشطة في شريط شرقي مولدافيا متاخم للحدود الأوكرانية. شهدت «ترانسنيستريا» تصعيداً مسلحاً في الأسبوعين الأخيرين كما لو أنه تسخين لتطورات مقبلة قد يستثمرها الروس لإزعاج الجيش الأوكراني وقد يستغلونها لتهديد رومانيا نفسها ذات العضوية في «الناتو».

سواء كانت «إنجازات» بوتين كافية لإعلان «النصر» في حرب أوكرانيا أم لا، فإنه استولى على إقليم دونباس ويواصل عسكرياً توسيع خريطته، ولا يجد مانعاً من تلبية «الدعوات» إلى ضمه.

وحين يقول أحد الساسة الروس «سنبقى في جنوب أوكرانيا إلى الأبد» (أندريه تورتشاك، نائب رئيس المجلس الاتحادي الروسي)، فهذا يعكس التفكير البوتيني الذي يعتبر التوسع في جنوب أوكرانيا حتى أوديسا مكسباً روسياً خالصاً لا علاقة له بحماية «جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك، بل بإخراج البحر الأسود من خريطة «الناتو» وخفض الأهمية الإستراتيجية التي يوليها الحلف لأوكرانيا.

أي أن في إمكان بوتين أن يعلن أن روسيا توسعت جغرافياً بالقوة، وحتى خلافاً للقوانين والمبادئ الدولية، وما على الخصوم سوى أن يقروا بالأمر الواقع ويتعاملوا معه. غير أن المحور الغربي لا يبدو في هذا الوارد، إذ تواصل الولايات المتحدة التسليح والتدريب والتمويل لأوكرانيا بوتيرة متسارعة، ولا يجد الحلفاء الأوروبيون مناصاً من مجاراتها على رغم ارتباكاتهم في العقوبات وفي حاجاتهم إلى النفط والغاز الروسيين، إذ إن بوتين ضرب استقرارهم وأعاد الحرب إلى قارتهم ولم يترك لهم خيارات أخرى.

لكن بوتين يعتقد أنه عرض عليهم خيارات، قبل 2014 وبعدها، وصولاً إلى مفاوضات ما قبل الغزو وحتى خلال التفاوض مع حكومة أوكرانيا.

غير أن كل ما عرضه كان يقود دائماً إلى الفكرة ذاتها: إما أن تكون أوكرانيا روسية أو لا تكون، واستطراداً: إما أن تستعيد روسيا نفوذها في الجمهوريات السوفياتية السابقة أو لا تشارك في ضمان الاستقرار الأوروبي. وعندما طرح تقاسم النفوذ في أوكرانيا كانت الفكرة ولدت ملغومة بانقسام أوكراني حاد، ثم إن موسكو ربطتها بشرط سحب شبكات الصواريخ الدفاعية من الدول الأطلسية الجديدة (السوفياتية سابقاً).

وعلى مدى أعوام حاول بوتين مقايضة مصالح غربية في سورية مقابل تنازلات غربية في أوكرانيا، ولم ينجح حتى في رفع العقوبات التي فرضت على روسيا بعد ضمها القرم. وحين أيقن بوتين أنه لن يحقق أي هدف بالتفاوض (مع واشنطن و«الناتو») قرر أن ينتزع ما يريده بالحديد والنار والدم.

أما مسألة أن أوكرانيا دولة أوروبية مستقلة وينبغي احترام خياراتها السيادية فلم تستوقفه يوماً.

أراد بوتين دائماً «استعادة» أوكرانيا ولم يتخل عنها نهائياً، لكنه منذ 2014 وضع في حسابه تقسيمها بشرط أن يكون شرقيها روسياً وغربيها «محايداً» غير أطلسي.

أما الآن فأصبح الشرق والجنوب جزءاً من روسيا وغير قابلين للتفاوض، ولذلك فإنه لم يرد أبداً على طلبات الرئيس فولوديمير زيلينسكي للاجتماع معه، ولم يعول كثيراً على اتصالاته مع الأوروبيين بل على دق الأسافين في ما بينهم، وأما الفصول التالية من العلاقة مع أمريكا والغرب فباتت خاضعة لشروط ما بعد أوكرانيا، لا تعني نهاية هذه المرحلة، كما يراها بوتين، أنه سيفلت من دفع ثمن ما سيطر عليه، بل إن مرحلة أخرى تبدأ مرفقة غربياً بالعقوبات التي ستظهر مفاعيلها على الاقتصاد الروسي وبتغيير الإستراتيجية الأطلسية، لكنها مرفقة روسياً بالتهديد النووي.