إذا ما الدهر جرّ على أناسٍ *** كــلا كـله أنـاخ بـآخـريـنـا

فـقـل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا

كذاك الدهـر دولتـه سـجالٌ *** تكـرّ صروفـهُ حينا فحينا

ومن يغرر بريب الدهر يومًا *** يجد ريب الزمان له خؤونا

«الكلاكل المقصود بها الشدة»، هذه الأبيات قالها الشاعر المشهور بـ«ذي الإصبع» وهو شاعر جاهلي اسمه حوثان بن محرث بن حارث العدواني، ويقال سمي ذا الإصبع لأن كان له في رجله إصبع زائد، وكان من المعمرين فقد عاش أكثر من مئة عام.

الشعر والأحاديث عن الشماتة لا تخلو منها خزانة شاعر أو قول حكيم، وكل ما قيل فيها كان بطبيعة الحال بالذم، حتى في الجاهلية، رغم أن هناك صفات غير محمودة قد يفاخر فيها في جاهلية زمان والجهل المركب للبعض في هذا الأوان، فمثلا لو نظرنا في معلقة ابن كلثوم التي يفخر بها في قبيلته، ولا شك أن هناك صفات طيبة وعظيمة كثيرة في قبائل العرب عامة، ولكن كانت نغمة الكبر والغرور غالبة في الوصف من الشاعر واعتبار ذلك من الفخر المحمود وهو ليس كذلك، فمثلا، هو يقول:

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وإنا المانعون لما أردنا *** وإنا النازلون بحيث شينا

وإنا التاركون إذا سخطنا *** وإنا الآخذون إذا رضينا

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا *** ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا

إذا بلغ الفطام لنا صبي *** تخر له الجبابرة ساجدينا

ما ذكرته مثال لمدح بعض الصفات من بعض الشعراء وإن علا كعبهم شعرًا وفصاحة، وهذا الكلام حسنه ووزره عليه لا ينسحب علي من يلوذ بهم أو ينتمي إليهم. وبعيدًا عن قيمة الشعر الفنية لكن يعد ذلك من الغلو في الوصف والتمجيد.

ولم أجد رغم البحث كثيرًا من يمدح الشماتة، طبعًا هي لا تستحق المدح مثلها مثل أي صفة غير سليمة، رغم أنه لا يسلم منها في هذه الأيام صريخ ابن يومين، وقد قيل في الشماتة من الشعر الشعبي:

يا شامت بالناس غلطان غلطان *** ترى الشماتة من كبار العذاريب

خلي الشماتة لا تجي درب حقران *** تراك تبلي دون شك ولا ريب

كم واحد بالناس شفناه شمتان *** ولا شاف منها غير حسرة وتتبيب

العلم جبته لك بيان وتبيان *** قول عدل ما به شكوك وتكذيب

تم الجواب وزبدة القول نيشان *** والحر تكفيه الإشارة بلا ريب

مع الأسف تدور في المجالس كثير من أحاديث الشماتة، فكل من أفلس بعد غنى أو سقط بعد جاه أو ذكر أنه وقع في قضية ما تشحذ الألسنة عليهم، وطبعا من فم إلى فم تكبر كرة ثلج الشماتة، ويدان المتهم وتكال عليه صفات بذيئة إضافية، ومن ثم يبدأ الشتم، وربما يصل إلى اللعن، ويتوج ذلك بالدعاء عليه بعظائم الأمور، ومن باب زيد من الدبة عسل والحقيقة عسل فاسد بل وسم زعاف، لا يسلم شرف الوالدين من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم، وذلك على «تربيتهما الفاسدة» للابن وما يعلمون أنه في كثير من الأحيان النار ما تخلف إلا رمادًا، وأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.

على الإنسان أن يبذل الجهد ولكن ليس عليه إدراك النجاح، كنا في مجلس ذات يوم ودخل علينا أحدهم مهللا ومبشرا أنه ومكتبه قد أخذوا حكمًا بسجن فلان من الناس، فقال له أحدنا إنَا لا ندري إن كان مخطئًا حقًا أم لا، وعلى كل حال لا يجدر بك الشماتة، ويظل هذا حبيس مكتبك والجهات القضائية.

لماذا يفرح الناس بتعب الآخرين وأوجاعهم ومآسيهم، البعض يقول يستاهلون على ما فعلوه، نقول نعم إذا ارتكبوا ذلك الإثم، ولكن ألا من كلمة طيبة.

إن تحميد الخطأ أو تحسينه أو إظهار الرضا عنه خطأ عظيم، ولكن نعف ألسنتنا عن الذم وندعو لأهله أن يجبر الله كسرهم.

والسؤال الذي يلوح في خضم ما يدور من حرب بين الروس وأوكرانيا، هل هو ميدان رحب للشماتة، وإلا أين ما ذهبت الحروب فإن خراجها هو للقيم الإنسانية، ولمواجع البشر النفسية والاجتماعية، ناهيك عن التأثر الاقتصادي والأمني ببعديه الداخلي والخارجي.

والحقيقة هذه الحرب هي حرب بين قطبين «أمريكا وروسيا» يسهم فيها من هم تحت إرادتهما ويدورون في فلكهما، وأما المواطنون فلا ناقة له فيها ولا جمل، فمن حيث الشكل الواقعي والقانوني هم معتدى عليهم، والغريب أنهم يهددون بالأسلحة التي كانت بحوزة وطنهم وسلمها ساستهم بإرادتهم وبطيب خاطر للجانب الآخر. وبالعودة لنفس السؤال هل يحق لنا الشماتة بهم، وبغض الطرف عن كل المبررات ما خف الوزن منها وما ثقل، وبأنهم أغراب عنا ولا يدينون بديننا، ولا ينتمون لنا بعرق أي بدم، وليس المقصود عرق الجبين الذي يتفاخر به كل من اتعبه الدهر، فكلما رأى ما عليه واحد من عباد الله من نعيم، أو حكى له شخص ما بأن فلانًا أو علانًا قد ارتقى نجمه جاهًا أو مالًا يرد عليه أنا يا بويا الذي عندي على قلته من عرق جبيني، مش بلطجة أو شغل الثلاث ورقات، أنا شقيت وحفيت رجولي عشان أكون نفسي لا فزعت لي واسطة زيد ولا جاه عبيد أو فلوس من اللي بالي بالك.

وإذا سأله أحد ايش تقصد في اللي بالي بالك قال: أنا أقصد فلوس حلال زلال، وأنظف من الصيني بعد غسيله، فاهم وإلا أشرحها لك بالمفتشري، يرد عليه صاحبه لا قفل الموضوع فاهم يا أخي خلاص خلي الطابق مستور.

نعم ليس بيننا ارتباط مع الأوكرانيين وأكيد ولا أيضًا مع الروس، ومع كل تلك العناصر من عدم الارتباط. فإن كلنا مخاليق الله ويجمعنا كره الحروب والقلق من المعاناة التي تنتج عنها مع تحفظنا الشديد على الكيل بمكاييل عدة وليس بمكيالين من تعامل الغرب، وحتى في النواحي الإنسانية، ونعلم أن العيون الخضر التي قد يكون في طرفها حول أهم للغرب من عيون الشعوب الأخرى ولو في طرفها حور، وقد نتغاضى عن فزعتهم الجادة أو الكاذبة «بتبينها الأيام» لأي دولة تستخدم كرأس حربة ضد أي دولة قد تشكل خطرًا مباشرًا عليهم، وإن كان ذلك أصلًا من صنع أيديهم، مع الأخذ في الاعتبار من ناحية أخرى مخاوف الروس «فالذي رجله في النار ما هو مثل الذي رجله في الماء».

على أي حال، هل يحق لنا كشعوب أن نشمت بهؤلاء المتحاربين أو بغيرهم من الشعوب، وبالذات من المدنيين ممن يقتلون دون أسباب في شتى بقاع الأرض. وبالتالي، هل يجوز لنا أن نقول وبكل ارتياح ضمير «وبكل برود وانشكاح» إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم «أي المنية».. وأم قشعم قد استعان بها عدة شعراء وكأنهم يترجمون القول الشعبي في بعض الدول العربية «في ستين داهية» أو في الخليج «بالطقاق»، فقد قال الشاعر زهير بن أبي سلمى من ضمن قصيدتة المعلقة:

فشدّ ولم يفزع بيوتًا كثيرة *** لدي حيث ألقت رحلها أم قشعم

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم.