ربما تتمنّى - وأتمنّى معك- لو تيسرت لعين القارئ العربي ويده عشرات «الأمهات» و«الروائع» الأدبية والفكرية والعلمية من الغرب والشرق، كما هو حاصل في معظم اللغات الحديثة، وربما تمنيت أيضًا - وتمنيتُ معك - لو أنشئ معهد عربي عال أو كلية متخصصة في شتى فروع الترجمة ومناهجها وعلومها، بحيث تتخرج منها أو منه أجيال جديدة من المترجمين، الثقات والأمناء في مختلف ميادين المعرفة.

لكنني سأقصر نفسي في هذا الحديث الخاطف على الترجمة والإبداع، أو إن شئت الدقة على الدور الذي تؤثر به الترجمة المبدعة، في المثقفين والثقافة التي يسعدها الحظ بمثل هذه الترجمة، ويخيّل إليّ أن الإبداع الأدبي والفني والعلمي، سيكون شيئًا مستحيلاً إذا لم تسانده من بعد، أو إذا لم «يتناص» - ولو بصورة غير واعية أو غير مباشرة - مع الروائع التي تتم ترجمتها في الثقافة، التي يتحقق فيها الإبداع سابق الذكر، وغنيّ عن الذكر أنني أستبعد على الفور الترجمات الرديئة والركيكة - وهي في كل اللغات والثقافات والآداب، وعندنا بوجه خاص أكثر من الهمّ على القلب! كما أنني أسارع أيضًا باستبعاد تلك الترجمات، التي يمكن أن نصفها بأنها «لا أدب» ولا علم ولا فن، مهما تكن هذه الترجمات السطحية المتسرعة، شديدة الجاذبية للشباب بوجه خاص.

لا حصر للأمثلة التي يمكن أن نسوقها عن الإبداع الترجمي الذي أخصب التربة الثقافية التي تمّ فيها، وحفز المبدعين في الثقافة المعنية على الإبداع، حتى لو افترضنا غياب أي تأثير مباشر من «المترجم» على «المؤلَّف»، إذ يبقى «التناص» مع الروائع المترجمة - كما سبق القول - حاضرًا في وعي المثقفين المنتجين أو لاوعيهم، ويظل عامل تشجيع أو تحريض، وحث على الإبداع الخاص، ولو بصور وأشكال غير مقصودة أو غير مباشرة. لنكتف بمثالين سريعين من ثقافتنا، ولتنظر مثلي بعين الطائر إلى تأثير الترجمات العربية - عن السريانية - للتراث العقلي والعلمي اليوناني، بوجه خاص في إبداع فلاسفة الإسلام وعلمائهم ومتكلميهم ومتصوفيهم، وإلى تأثير ترجمة أو استلهام ابن المقفع لكليلة ودمنة، في التراث القصي العربي وقصص الحيوان وأمثولاته، منذ القرن الثاني الهجري حتى أحمد شوقي في القرن الماضي.

وانظر أيضًا إلى تأثير بعض الروائع المترجمة في العصر الحديث، لأعلام كبار مثل طه حسين والزيات ومحمد عوض محمد وعبدالرحمن بدوي - بجانب «تعريبات» المنفلوطي، وغيره من رواد الكتابة المسرحية والروائية - «وذلك على سبيل المثال كما قلت، لأن أسماء وأعمال هؤلاء الرواد العظام وأبنائهم وأحفادهم، تفوق الحصر وتحتاج إلى بحوث متخصصة»، ثم اسأل معي: هل كانت الكتابات الروائية والمسرحية والقصصية، التي نعتز بها في أدبنا الحديث، لتتم بغير وجود تلك الروائع المترجمة في الظل والخلفية، ومن دون تأثير مباشر أو غير مباشر في المبدع العربي أيًا كان نوع إبداعه؟. إن تجربتي التي استمرت لأكثر من أربعة عقود مع ترجمة الشعر الغربي - وليأذن لي القارئ بهذا الاعتراف الشخصي الأخير - قد كان لها صدى عند جيلين على الأقل من شعرائنا، الذين كانت ترجماتي الشعرية للشعر بوجه خاص، عامل تأثير غير مباشر عليهم، أو لعلها كانت مجرد حافز على الاطلاع على تجارب جديدة، والنهل من ينابيع مختلفة وغريبة.

2006*

* كاتب ومترجم مصري «1930 - 2012»