منذ الخمسينيات تحدث صاحبي عن التراث وتحدث أيضاً عن المعاصرة، وسرى هذا الحديث على لسان كثير من النقّاد، وكانت آراؤهم متباينة في البداية ثم تقاربت مع الأيام. ولم يكن حديثه توفيقياً يجمع بين المتناقضات، فلقد عرف أن في كل من هذين القرنين بعضاً من القرن الآخر، ويكفي أن نسمعه يعرّف التراث من أنه تراكم الإبداع عبر تاريخ أمة، لنرى أن هذا التراكم مستمر حتى اللحظة هذه، وأنه مستمر ما دام الإبداع قائماً، وأن ما هو حديث معاصر سيصبح غداً تراثاً، وأن قوام الذات الثقافية هو هذا التراث الذي يعيش معنا ومع آمالنا وطموحاتنا المستقبلية.

فلا خوف إذن على المغتربين من التراث، فهو ليس سجن الماضي بل نافذة المستقبل، وإذا كان لا بد من الاعتراف بثقافة الآخر الذي قد يسبقني أو أسبقه، فإن مجابهته لا تقوم على صراع الحضارات كما يقولون، بل تقوم على الحوار. وكثيراً ما نادى بالحوار واشترك في حلقاته مع مثقفي الغرب ومع المثقفين العرب المغتربين، وهو يعترف بأن حجة هؤلاء قوية، فهي تعتمد على إرث ثقافي غني ابتدأ منذ عصري النهضة والتنوير وسار صاعداً، ولكنه وقد أتخم بتراثه حتى وصل إلى نقطة الانفجار، وكثيراً ما وُصفت الحداثة الغربية بالانفجار أو بالانقطاع عن التراث ورفضه مطلقاً.

لقد كان مصير الثقافة الغربية مع الحداثة حجة مع صاحبي الذي استفاد منها عند قراءة فَكْرنات ما بعد الحداثة التي وصلت إلى حدود الإقرار بالعودة إلى الجذور، لتأكيد وتبرير مسيرته باتجاه العودة إلى التراث، فهل كان ناجحاً؟

وكثيراً ما تحدث عن القطب الواحد وتعسّفه بعد غياب القطب الآخر. وهو يعتقد أن عهد القطب الواحد الذي ينادي بالعولمة عهد قصير، فثمة أقطاب أخرى تعدّ نفسها لمنافسة هذا القطب، ومنها قطب الأمة العربية وقطب الشعوب الإسلامية الناهضة.

هكذا اكتشف وئيداً سداد مسيرته باتجاه الأصالة، وأراني أرفض أن يتهم بالشوفينية أو يتهم بالسلفية أو بالانعزالية، بل أراه أكثر المثقفين انفتاحاً على ثقافة العالم وثقافة المستقبل، ولكنه أكثرهم غيرة وحرصاً على ذاته التي تكوّنت خلال آلاف السنين ومنذ بداية التاريخ. نعم منذ بداية التاريخ وتساءل كاتب صهيوني خبيث في كتابه عن إيبلا وقد جرّح صاحبي لأنه اعتبر أن اكتشاف إيبلا الذي يعود إلى الألف الثالث قبل التاريخ يؤكد أصالة العرب الحضارية.

تساءل هذا الكاتب كيف يتحدث صاحبي عن العروبة منذ فجر التاريخ، ولم يكن للعرب في البراري وجود إلا متأخراً في التاريخ، ومتخلّفاً جداً في الحضارة.

لقد عرف صاحبي وكما ذكرت سابقاً أن العربي موجود قبل الأعراب وقبل الإسلام. في حضارة بلاد الرافدين والشام، من خلال لغته التي كانت لهجة بدائية متنامية، هي بداءات اللغة العربية التي تكاثرت بمفرداتها منذ الأكّاديين ثم العموريين والإيبلائيين وحتى الكنعانيين والآراميين. وأن هذه اللغة تشكّل نسغ الحضارة التي سميت بأسماء الأماكن التي حبلت بآثارها التي اكتشفت أخيراً.

وأنا أثق بأن اللغة هي خير دليل على وحدة الثقافة ووحدة الحضارة ووحدة الهوية القومية. وأعتقد أنني لن أجد مخالفاً لهذه الحقيقة.

فإذا كان الأمر على ما قرأت في كتبه وأبحاثه، فإنني أستطيع أن أشاركه بالقول إن الأمة العربية والحضارة العربية ابتدأت مع فجر التاريخ، وليست متأخرة، ولم يكن الإسلام إلا ذروة في تاريخ الأمة العربية شعّ بفضل هذه الأمة على العالم.

هكذا يضعني صاحبي أمام مجال تاريخي واسع أعود إليه لكي أستمد أصالتي دون أن أقع في إسار مرحلة دون أخرى، مؤمناً بأن هذا التاريخ واحد وإن تعددت حلقاته، وهذه الحضارة واحدة ما دامت محمولة على ثقافة واحدة ولغة واحدة وإن تعددت لهجاتها.

هذه الجوانب الفكرية التي تبدو متعددة في ثقافته لا تجعله شارداً بعيداً عن تخصصه، فهو أولاً وأخيراً باحث حضاري عربي كما يحلو له أن يعرّف بنفسه، ولقد اختار من الحضارة البحث في الفن، وهو إذا توقف في محطة تاريخ الفن الإسلامي، فلأنه ما زال مؤمناً بأن الفكر الإسلامي هو الخلفية الحضارية للإبداع العربي وغير العربي، وهو الخلفية الأيديولوجية للنزعة القومية التي ينتمي إليها. ولقد وجد في الفن الإسلامي شاهداً على الفكر الإسلامي، بل وصل به الأمر إلى حدود القول بالتعرّف على الفكر الإسلامي من خلال الفن، ولذلك توسّع وتعمّق في الكلام عن جمالية الفن الإسلامي وفلسفته. وكثيراً ما عبّر عن طموحه لتأليف علم جمالي إسلامي مستقل عن علوم الجمال في أوروبا أو في الهند أو في إفريقيا، على فرض وجود هذا العلم فيها. ولقد أكّد طموحه هذا بتقديم نبذة عن مفهوم الإبداع والفن والجمال عند واحد من أبرز الباحثين العرب هو أبو حيان التوحيدي. 2001*

* مؤرّخِ وفنّانِ تشكيلي وأكاديمي سوري «1928 -2017»