ذلك الجسر الخشبي الذي يقطع نهر الأردن ليصل فلسطين بالأردن.. الطقس شـديد الحرارة على الجسر، قطرة عرق تنحدر من جبيني إلى إطار نظارتی، ثم تنحدر على العدسة.

غبش شامل يغلل ما أراه، وما أتوقعه، وما أتذكره.

مشهدي هنا تترجرج فيه مشاهد عمر، انقضى أكثره في محاولة الوصول إلى هنا.

ها أنا أقطع نهر الأردن، أسمع طقطقة الخشب تحت قدمي، على كتفى الأيسر حقيبة صغيرة، أمشي باتجاه الغرب مشية عادية، مشية تبدو عادية. ورائى العالم، وأمامي عالمی (رأيت رام الله).

الجـسـر عـمـومـًا في اللغـة مـحـمـل بعـشـرات المعـاني هـو فـاصـل بين أرضين.. بين شـاطئين.. بين زمنين.. بين أمـرين.. بين عالمين.. بين مشكلة وحلهـا.. بين عـاطـفـة ونقيضها.. هـو عـتـبـة للتغير، هو الانتقال بالجسد بين جغرافيتين.. الجسر أيضًا الانتقال بالمعنى.. الانتقال بالروح.. بالعاطفة>

الجسر حالة انتقالية، في كتابي «رأيت رام الله» الجسر هو فاصل بين العالم الذي عشته في سنوات المنفى والغربة، وبين عالمي الحميم في الوطن، قد يقول البعض «أن الجسر هنا هو الذي يصله بذكريات الوطن»، هي ليست ذكريات.. هي عيشة في الوطن بأكملها، كسرت بالاحتلال ثم استعيدت بعد ثلاثين سنة، فكلمة ذكريات هنا خفيفة.

قبل 30 عامًا عـبـرت الجسر في طريقي من رام الله إلى عـمـان ومنها إلى مـصـر لأستكمل دراستي بجامـعـتـهـا في العام الدراسي 1966-1967 عام تخرجي هو عام هزيمة يونيو..

العام الذي أصبحت فيه من «النازحين».. العام الذي أصبحت فيه «ذلك الغريب الذي كنت أظنه دائمًا سوای»، ذلك الغريب الذي لا يعود أبدًا لحالته الأولى.

عندمـا يعـود الإنسان إلى مكان متروك فإنه لا يرغب في استرداد مفردات المكان ذاتها.. لماذا نشتاق إلى الأماكن التي تركناها.. نحن نشـتـاق لأعـمـارنـا فـيـهـا.. لحياتنا فيها.. لمشاهداتنا فيها.. لتجاربنا فيها.. وعندما يعود الإنسان إلى مكان هو لا يسترد أبدًا لا مرحلته العمرية ولا مشاعره التي كانت من ثلاثين سنة هذه أمور لا تسترد، هو يسترد الأماكن.

يجد المكان على حاله لكن من أين له أن يسترد الطفولة والعمر الذي مضى والناس الذين ابتعد عنهم على حالهم قبل ثلاثين سنة؟!

يجدهم مثله مكتهلين أو في حالة اجتماعية مختلفة، الأعزب تزوج، الصغير كبر، الأسرة الصغيرة أصبحت أسرة واسعة.. فبالتالي أنا لا أحب أبدًا استخدام كلمـة حنين فهي كلمـة رخـوة..

ولكن استرداد الإرادة التي كسرت بأن ترغم أجيال بأكملها على مغادرة وطنها نتيجة الاحـتـلال وقـسـوته وجـرائـمـه فـهـذا الذي يتكون في هذه الأجيال لا يكون حنينًا رومانسيًا مسترخيًا..

الذي يحدث أنهم يكونون في حالة غضب أكثر من حالة شوق، وفي حالة رغبة في استرداد الإرادة المكسورة.. لأن إرادة الاحتـلال تنتصر عندما يقوم ببسط سيطرته على الأرض وتبدأ إرادة المواطن في الانكسار.. كل عـمـر الفلسطيني هـو مـحـاولة لانتشال إرادته كي لا تكون مكسورة.. كي لا تظل مكسـورة وبالتالي نحن نعيش، ونكتب، ونسـتـشـهـد لنسترد إرادة منتصرة وبالتالي هذه المشاعر بعيدة عن مشاعر الحنين المسترخي، نحن لا نـعـود إلى الأماكن التي تركناها لكي نسترد الحجارة والأزقة والمباني.. نعود وكأن فينا رغبة من يواجه.

يتحدى ويقـاوم تحت التحقيق ويتـصـرف ببطولة و يضـمـد جـراحـه ويستمر في تحمل العذاب.

وبالتالي الكتابة الأمينة تقتضى أن نلتقط أن الحياة ليست ببساطة ما يحاول كتاب الخطابة والمباشرة أن يصوروه لنا الإنسان الفلسطيني.. الرجل و المرأة.. الشيخ والطفل..

كل الشعب الفلسطيني ليس حالة إكلينيكية.. نحن نظهر في التليفزيونات عندما تكون هناك مـجـزرة.. عندما يكون هناك مـوت ودم مـسـفـوك..

لكن الفلسطيني الذي يذهب في دروب الحياة عاشقًا.. كاتبًا.. أكاديميًا.. رسامًا.. زوجًا.. صديقًا أو جـارًا.. الفلسيطني الذي يذهب في دروب الحـيـاة العادية الطبيعية يصدق حينًا.. يكذب قليلًا.. هذا فلسطینی غائب.

وأنا أرفض هذه الصورة لأنها تنزع الإنسانية عن الشعب.

الفلسطيني يعيش في الوقت، فـعـلاقـتـه بالمكان هي في حقيقتها علاقة بالزمن، كل مكان أقمت فيه اضطررت لمغادرته.. وشـعرًا قلت ذات مرة:

كلما ركزت خيمة يومنا التالي

تطيح بها الرياح ويقلع الوتد

فأصبحت أخـشـى التـألف مع الأمكنة، لأنى أدرك من البداية أنه سيأتي يوم ويقال لي غادر المكان، لقد أقمت في ثلاثين بيتًا أو أكثر.. وحياة من الإقامة بهذه الطريقة تعطب العلاقة بالمكان، وفي مشوار هذا العمر كان التشبث بأي مكان هو التشبث بالخسارة وبالفقد المسبق..

فإن تقيم في شقة بالإيجار أو في شـقـة مـفـروشـة أو في فندق أو في بلد تتغير قوانينه يرضى عن إقـامـتك سنة ويغضب منك سنة أخرى.. تسجن في هذا البلد وترحل من ذلك البلد، فالقلب يتعود أن يقسو على نفسه حتى لا يحب ما سيترك.. ما سيفقد.. فأصبحت فعل؟ا

أعيش في لحظات الحياة التي مرت أختزنها.. أفكر فيها.. أتزود بها.. أتقوى بها.. أشتاق لها ومن هنا عبارة الإقامة في الوقت وهو عنوان واحد من فصول الكتاب، لأن المقتلع من أرضه ومن وطنه يذهب إلى الشتات وإلى المنافي هذه المنافي مليئة بالتقلبات كالحياة نفسها.. ومليئة بالمفاجآت.. فقد سجنت ورحلت وطردت وانتقلت من بلد إلى آخر إما لأسباب تتعلق بالعمل أو تتعلق بی.

1995*

* شاعر فلسطيني«1944 - 2021».