سبق وأن تحدثت في وقت مضى عن ازدواجية المعايير الأمريكية، التي طرأت على الخط السياسي منذ أن دخل الرئيس جو بايدن البيت الأبيض. وكانت أحد أهم عناصر ذلك الأمر، النظر عبر منظار خلط المفاهيم، وعدم التمييز الذي يفترض أن يتمتع به أبسط سياسي في العالم.

وتساءلت كثيراً وغيري، عن الآلية السياسية التي تتعامل وفقها الولايات المتحدة الأمريكية مع شرائح التركيبة الدينية والمذهبية في العالم الإسلامي «سنة وشيعة».

والتجارب التاريخية تبرهن أن المعادلة السنية هي الأجدر والأكثر رجاحة من حيث الاعتدال، في مقابل عنوان كبير اسمه «التطرف الشيعي»، الذي يحمل على عاتقه معظم حالات عدم الاستقرار، على الأقل في منطقتنا العربية.


وهذا واقع لا يمكن السكوت عنه أو تجاهله والصمت عنه. ولأي أحد ذي اهتمام أن يبحث عن العمليات التي يقف خلفها نظام ولاية الفقيه «عراب الإرهاب الشيعي»، ليجد أن الثعبان الإيراني وجد المساحات الشاسعة في التنقل من تخريب السفارات والممثليات الأجنبية في بلاده، إلى أن أطل برأسه أكثر من مرة محاولاً زعزعة لنُسك شعيرة الحج في مكة المكرمة أقدس بقاع الأرض بما تعنيه للمسلمين قاطبة من طنجة حتى جاكرتا، حتى استقر والتف على أربع عواصم عربية (بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء)؛ وأطبق عليها بأنيابه.

ما دفعني اليوم للكتابة عن هذا الأمر مجدداً، هو الصمت الغربي والأمريكي عن نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية، التي تفوح منها رائحة رغبة حزب الله في الإطباق على الدولة، وإشارات احتمال لجوء الميليشيا المتطرفة لتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية، بعد أن مُني ما يسمى «محور المقاومة»، وحلفاؤه في التيار الوطني الحر، بخسارة في المقاعد البرلمانية؛ وهو الذي– أي الحزب– إن لم يلجأ للتعطيل، فسيعمد على إشعال البلد في حرب مع المرشحين المستقلين ممن حصلوا على مقاعد تشريعية، وفي كلتي الحالتين فلبنان على موعد مع التصعيد، وهذا ما تُلمح له تصريحات محمد رعد رئيس كتلة الوفاء التابعة لميليشيا التطرف اللبنانية مخاطباً غريمه التقليدي حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع «لا تكونوا وقوداً لحرب أهلية». وتفسير ذلك إن لم يكُن وضع يدٍ على الزناد، فهو إعلان حرب مُؤجل.

فلم تحرك واشنطن التي أدخلت أنفها في الأزمة الروسية- الأوكرانية، وبوادر التصعيد في تايوان ساكناً؛ مقابل تنامي قدرات الأذرعة التابعة للإرهاب الشيعي المدعوم من الجمهورية الإيرانية، والمتمثلة في ميليشيا حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وميليشيا الحوثي في اليمن، وحركة حماس الإرهابية في قطاع غزة.

وهذا الصمت سيعود على القيمة والثقل السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، بالتزامن مع الصفعات التي تلقتها من روسيا، التي أسهمت بشكل كبير في تدني القيمة والثقل السياسي الأمريكي.

والسؤال المشروع، هو كيف للإدارة الأمريكية التي جندت رجالها لإقناع الدول المنتجة للنفط بضخ مزيد من الإنتاج في سوق البترول العالمي، أن يكون الخطر النابع من الإرهاب الشيعي المُسلح، إضافة إلى سيطرة أحزاب شكلها سياسي وهي في الحقيقية ميليشيا متطرفة، على دول تعتبر مؤثرة في استقرار منطقة الشرق الأوسط، أمراً لا يتم مراعاته والنظر إليه بعين جادة، بل يصبح تعمد تجاهله سيد الموقف؟

وما مواضع القوة التي يرى من خلالها السياسي الأمريكي برغم من كثير من الإخفاقات، أنه سيحصل على مزيد من التأييد والدعم والاقتناع بمشاريعه الداخلية والخارجية، في وقتٍ تتجاهل إدارة بايدن أكثر الملفات حساسية، في منطقة هي الأكثر أهمية على مستوى العالم، ارتباطاً بالطاقة والموقع الاستراتيجي؟

وما الرافعة التي استندت عليها واشنطن في دعمها للنظام الإيراني المتمثل بعد أن فتحت ذراعيها للدولة المارقة وقررت الجلوس معها على طاولة مفاوضات في شأن ملفها النووي، وهي على يقين بأنها تقف وراء إطلاق الصواريخ البالستية باتجاه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وهما الحليفان الأهم في المنطقة؛ إضافة إلى تمويلها– أي طهران- جميع مشاريع التخريب المذهبي والطائفي في العالم؟

بصراحة لم أجد حتى الآن أجوبة أو تفسيرات لتلك الأخطاء التي لطالما وقعت بها الإدارة الحالية، والترجمة الوحيدة التي أراها في حقيقة الأمر، أنها ربما تكون مُكبلة في ذهنية سياسية تُحركها العواطف والحسابات الخاصة للأحزاب دون النظر لمصالح البلاد العليا، التي تستدعي الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء، وهذا ما سيكون من دون جدال لعنة للسياسة الأمريكية؛ سيذكرها التاريخ لمجرد المرور بهذه الحقبة، التي بلغ بها رئيس ذو قدرات متواضعة؛ إلى مكتب لطالما اعتبره أسلافه أنهم الأهم في العالم.

إن الولايات المتحدة الأمريكية التي يحبها البعض ويكرهها الجميع؛ بصمتها عن التطرف الشيعي المتمثل بحمل السلاح من القتلة، أو المندسين وراء شعارات وعناوين أحزاب سياسية، سيتحول يوماً ما، من خبرٍ إلى حدث، مفاده أن ذاك الذي اعتبر نفسه متلاعباً مع العقارب؛ جاءته لحظة أجبرته على تذوق ذلك السُم الكامن في جوفها. وبعض السُمّ دواء.. وأكثره قاتل. والتوابيت جاهزة. وأغلب الطرق ذهابٌ بلا رجعة. والكلمات قبور. والصمت مقبرة. والسلام.