كنت أظن الصحوة طيلة أربعين عاما هي وحدها سبب إشكال أخلاقي، ليتحول (النفاق) في زمن الصحوة إلى (دين) لتجد مثلاً مجلسا يضم مجموعة من مختلف الفئات فتتفاجأ بأنهم يتحدثون عن (الدش) وخطره وأنه حرام... الخ، ثم تنفجع فعلاً عندما تجدهم أجمعين يمتلكون دشوشا على سطوح منازلهم، وعندما تسألهم يقولون لك: يا أخي لا نريد مواجهة المجتمع! أي مجتمع وكلكم تشاهدون الدش، ثم أبرر هذا بأنه يعود لهيمنة رجال الدين وسلطتهم، مما جعل الناس يمارسون النفاق باعتباره دينا، فيعيشون انفصاما أخلاقيا ودينيا، بين ما يدافع عنه بالقول إلى حد السباب في (سبيل الله!!) وبين ما يعيشه عكس ما يقوله، منذ ذلك الذي يستنكر سفر المرأة من دون محرم وعاملته المسلمة تخدم في منزله بلا محرم طيلة سنوات بلا إجازة.

انتهت الصحوة وانتهت مبررات التناقض الأخلاقي المفترضة بسبب هيمنة سلطة سرورية تغولت على الفضاء العام للمجتمع، فما الذي بقي من أسباب التناقض الأخلاقي (النفاق)؟ لم أجد ما يفسر هذه التناقضات الأخلاقية في الوقت الحالي، ومنها استنكار الحفلات الغنائية في مجالس المناسبات الخاصة، ثم تجد التذاكر الخاصة بالشباب (ذكورا وإناثا) تنفد بأسرع وقت، واستنكار ما يسمونهم (مشاهير الفلس) لتتفاجأ أنهم أصبحوا مشاهير بمتابعات (المستنكرين لهم؟!!)، فتتساءل هل يعقل أن هؤلاء المتذمرين صادقون أم يكذبون، ولماذا الكذب؟

يرد أحدهم بقوله: إنها سلطة المجتمع، فتقول: أي مجتمع يقصدون؟ هل هو المجتمع الذي دفع قيمة كل التذاكر الغنائية ثم يستنكرها، أم المجتمع الذي أوصل أشخاصا بسطاء عفويين ــــ حد السذاجة أحياناً ــــ إلى أعلى سلم الشهرة؟!! ثم يستهجنهم.


أطرح في هذا المقال محاولة للحفر في سبب استمرار بعض التناقضات التي تجعل المجتمع يكرر تناقضات زمن الصحوة، فيسمح المجتمع للمرأة أن تركب مع السائق الأجنبي، لكنه يستنكر ركوبها مع سائق سعودي، والآن يسمح المجتمع للمرأة أن تركب مع كابتن أوبر السعودي، وتجد المرأة حرجا أن تكلم قريبها الذي في سن والدها ليوصلها للمناسبة الاجتماعية نفسها التي يحضرها مع أهله؟!

سأختصر التناقضات التي يأبى المجتمع أن يتخلص منها ولا أظنه (يتخلص) لأنها جزء أصيل من تكوينه الطبقي إنها (أخلاق البرجوازية الرثة) والبرجوازية فئة وسطى لا تعرف معنى (الإنتاج) كقيمة معنوية محترمة، ولا تعرف معنى (إدارة الإنتاج) كقيمة رأسمالية تساعد على النمو والازدهار، فلا هي من الطبقة العليا التي تملك مواهب (الإدارة العليا) ولا هي من الطبقة الكادحة المنتجة، إنها طبقة (رثة مترهلة) لها موقعها (الهلامي) في عملية الإنتاج، وتزدهر طباعها (الرثة المترهلة) في أي دولة ريعية.

ولهذا فإن رؤية (2030) هي الرهان الوحيد لمعالجة هذه (الرثاثة البرجوازية) التي تقاوم التغيير بدعوى (الأخلاق) كما كانت تقاوم التغيير بدعوى (الدين)، وفي الحقيقة أنها تقاوم ما يقصقص ترهلاتها ورثاثتها (الأخلاقية والدينية).

فمن أمثلة ترهلها الأخلاقي والديني أن تجد أحدهم يحكي لك عن سماعه أغنية جديدة للفنان فلان، ثم يتبع ذلك بقوله: (الله يتجاوز عنا ويغفر لنا إن شاء الله)، فتسأله عن هذه اللازمة بالدعاء، هل هي عامة أم خاصة بذكر الأغاني، فيقول لك: إنها دعاء بالمغفرة لأنه يسمع الأغاني، والأغاني حرام، فتخبره أن المسألة خلافية، فيقول لك: هكذا تعودت، فتقول له: تخيل شخصا يقول: ابنتي تقود السيارة الله يتجاوز عنها ويغفر لها إن شاء الله، ويحتج لاستغفاره بأن هناك رجال دين قالوا إن قيادة المرأة للسيارة حرام، وتخيل أن يقول شخص آخر: شربت القهوة بالهيل والعويدي مع التمر الله يتجاوز عنا ويغفر لنا إن شاء الله، بحجة أن هناك رجال دين قدماء قالوا بتحريم القهوة، ومثلها أن يأتي شخص ويقول: ابنتي تخرجت في الجامعة الله يتجاوز عنها ويغفر لها إن شاء الله، بحجة أن هناك رجال دين أوائل قالوا بتحريم تعليم البنات.

إنه مرض اجتماعي لن يجتثه إلا رؤية (2030) في جانبها الاقتصادي، لكي تختنق البرجوازية الرثة بحقيقة واقعها (المترهل) وسلوكها (الهلامي) الذي انعكس على معنى (القيم) لتصبح قيما وهمية على جميع المستويات، وكنا ننسب كثيراً من ذلك إلى الصحوة، بينما الصحوة مجرد غطاء ديني أنيق وساتر جداً لهذه (البرجوازية الرثة المترهلة).

ولن ننسى معارضة (عمل المرأة في المحلات التجارية) تحت دعوى الخوف على الأخلاق، بينما أدنى شخص له مسكة من عقل يستطيع أن يرى (البرجوازية الرثة المترهلة) تصمت عن واقع امرأة مسحوقة تعمل تحت الشمس المحرقة بالبيع والشراء فهذا ليس منكرا في عرفها (الطبقي)، بينما يربكها عمل المرأة في المحلات وتحت المكيفات لأن ذلك يسحب اليد الرخيصة للعمال الأجانب من سيطرة فئة ثالثة أشد خطراً وهي المتحالفة الأقوى مع الأصولية الدينية (الرأسمالية الطفيلية/ وفق وصف مراد وهبة).

ربما فهمنا لمعنى (البرجوازية الرثة) يفسر لنا هذا الارتباط الغريب بين (وعاظ الصحوة والثراء المفاجئ)، لقد كانوا هم الزيت البرجوازي لتروس الفساد، وهذا ربما يفسر لنا الترابط الغريب ما بين محاربة الصحوة وتدميرها ومحاربة الفاسدين (الرأسمالية الطفيلية) وتدميرهم، كأنما الرشوة والعمولات... الخ تجد حاضنتها في الصحوة التي حاولت إخراج قاض من قضية رشوة بحجة أنه (مسحور) ثم أخرجت تبريراً (شرعياً) لبعض ما ينطبق عليه نظام الرشوة باسم (الشفعة الشرعية)، إنه مثلث (البرجوازية الرثة، الأصولية الدينية، الرأسمالية الطفيلية) في أخلاقها وقيم عملها عندما تصنع لها ديناً يجعل بعض المفكرين يختزلونه فيما سموه قديماً ظاهرة (البتروإسلام).

لعل الوعي بمعنى (البرجوازية الرثة) يفسر لنا عجز بعض المثقفين عن الوقوف حتى هذه اللحظة مع رؤية 2030 فعلاً ويكتفون بالوقوف قولاً، لأنهم في الحقيقة لم يقبلوا بالرؤية لأنها تمس مكتسباتهم الطبقية باعتبارهم جزءا محسوبا على هذه (البرجوازية الرثة) في كل شيء، (رثة في مواقفها، رثة في تفكيرها، رثة في أخلاقها) وتغطي كل هذه الدمامل بمكياج ثقافوي يمسك العصا من المنتصف، فلا هو صحوي متخلف عن ركب مجتمعه، ولا هو وطني يشارك في توجيه مجتمعه للأمام، إنه يريد مكاسب (البشت الصحوي) وأناقة (الثوب المسبل) ليضيع الوقت في كوميديا سوداء فترى ـــ لا سمح الله ــــ تبادل أدوار ما بين حداثة عرجاء تقود أصولية عمياء أو العكس ليراوح المجتمع في (فصام عمومي) مرة باسم الدين ومرة باسم الحرية.

أخيراً حاولت تفكيك الظاهرة وفق أدواتي البسيطة مع عتبي الشديد على علماء النفس وعلماء الاجتماع فهم أجدر من أي أحد في استقراء الظاهرة، وإن كان مصطفى حجازي في كتابيه «الإنسان المقهور» و»الإنسان المهدور» قد قطع قول كل خطيب، لكن يبقى المقال فاصلة للنظر من زاوية أخرى لطرح وجهة نظر مختلفة.