هل عندك غيرة على وطنك؟ نعم عندي غيرة (ثقافية/حضارية) شديدة على وطني، فلو كنت في عام 1349هـ لتمنيت أن يوجد نظام (التأمين على الحياة) لكل موظفي الدولة، مهما اتهمني المعارضون بالتغريب وفساد العقيدة بحجة (أنه لا يجوز التأمين على الحياة)، لكني أدرك أن القيادة السياسية هي من تتولى النظر في طريقة استيعاب أفكار الحداثة والتطوير، لتعيد إنتاجها بما يتناسب وعقل المجموع لتظهر على شكل (نظام التقاعد)، فمهمة المثقف أن يتحدث عن أهمية (تعليم البنات مثلاً) وفتح المدارس لهن، حتى ولو اتهمه مجايلوه بأنه متطرف يساري جداً في طرح هذه الفكرة (عبدالكريم الجهيمان نموذجاً).

ويبقى من مهام السياسي تسويغ هذه الضرورة التعليمية على شكل مكافأة مالية للطلاب في القرى والبوادي كي يقتنع الآباء بإلحاق أبنائهم وبناتهم بالمدارس، وقد حصل ذلك فعلاً (لتذكير الجيل الجديد بواقع بعض آبائهم في مقاومة التعليم).

كل هذه المقدمة في استنطاق ماض يعود لنشأة الدولة السعودية الحديثة، يهدف إلى استنطاق الحاضر على المستوى (الثقافي/الفكري)، فقد سعدت جداً بمجلة حكمة الإلكترونية ومجلة الفيلسوف الجديد، بل وأشيد بجهود الدكتور عبدالله المطيري والمرموق شايع الوقيان، ورفاقهما في الجمعية الفلسفية.

فكل هذا مهم ومصدر فخر لكل مشتغل بالثقافة والفكر في السعودية، ولكن عند تتبعي المتواضع لقضايا الفكر (الديني) وليس الفكر (الإسلامي)، فهناك فرق أختصره اختصاراً مخلاً، لكنه يفي بحاجة مقال اسبوعي فأقول: إن الفكر الديني يتكئ على استنطاقات تشمل (تاريخ الأديان المقارن) و(علم الفينومولوجيا/الظاهراتية) و(علم الهيرمونيطقا/التأويلية)، بينما (الفكر الإسلامي) يتكئ على إعادة الأيديولوجيا العقائدية/الشمولية التي تهدف إلى صناعة عدو بشكل ما، من خلال تشكيل جدليات مشغولة بالإقناع الأيديولوجي/العقائدي بخلاف البحث عن الحقيقة (الممكنة والنسبية)، الذي نجده في (الفكر الديني)، فالفكر الديني يستطيعه (العلماني صاحب الإيمان)، ويعجز عنه (الدوغمائي صاحب العقيدة).

الإيمان يشبه النهر الجاري الذي يدرك أن سبب حيويته وجودته تكمن في جريانه؛ ليقول كل من عرفه (لا يمكن عبور النهر مرتين)، بينما العقيدة تشبه الماء المحفوظ في بركة الذي يصيبه مع تقادم الزمن (الأسون) مهما كان حجم البركة، بسبب طبيعة العقيدة (المحفوظة/المجمدة) إلى حد فقدان الصلاحية، بينما الإيمان هو حيوية روحية وحياة فكرية خالدة.

ما دعاني إلى كتابة المقال هو متابعتي المتواضعة للنشاط الفكري العربي الذي أجده في بعض العواصم العربية التي أنهك بعضها ما سمي (الربيع العربي)، ورغم ذلك فاشتغالها على (الفلسفة الدينية) متنوع ومثري، مما ليس موجوداً عندنا على مستوى الخليج (العربي) باستثناء سلطنة عمان والعراق.

ولأوضح مقصدي بشكل مباشر سأشير إلى مجلة (التسامح)، أظن اسمها تغير إلى مجلة (التفاهم/فصلية فكرية إسلامية تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية) بسلطنة عمان/مسقط، وسبب غيرتي الوطنية أني تمنيت أن أجد وزارة من وزاراتنا (الدينية) تخرج لنا مجلة بهذا المستوى الفكري الراقي دون الاكتفاء بمجهودات مجلة الفيصل أو مخرجات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، فما وجدته في مجلة (التسامح/التفاهم حالياً) العمانية يصل لمستوى (الفكر الديني) بالمعنى العلمي الفلسفي (الموضوعي المحايد)، بعيداً عن منتجات (الفكر الإسلامي) المصطبغ بالأيديولوجيا (الإخوانية/العقائدية).

ولهذا كانت غيرتي أن لا أجد مثل هذه المجلة عندنا إما لأنه غير موجود مثلها، وإما لجهلي الكبير الذي أعتذر عنه، ولكن قبل الاعتذار على المهتمين الإطلاع على أبواب وفصول مجلة (التسامح/التفاهم حالياً) الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العمانية، والتي في أحد أعدادها (5/2004)، وجهة نظر للمفكر علي حرب عن مسألة التغيير بين المأزق والمخرج، ودراسة عن السليقة اللغوية بين ابن جني وتشومسكي لعبدالله الجهاد، ودراسة أخرى عن مفهوم الطبقة بين المحدثين والأدباء لمحمد أمين، بالإضافة إلى آفاق يطرح من خلالها كارستن لي موضوع شارلمان وهارون الرشيد.

وتوضح لنا في أحد فصول المجلة أنجليكا نويفرت أستاذة ورئيس معهد الدراسات العربية بجامعة برلين الحرة بألمانيا، وهي تعرفنا بالتأويلية ومعهد الدراسات المتقدمة في برلين، وأخيراً فصل متابعات الذي أشار إلى أحد تعريفاته بكتاب مايكل كاريذرس: لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة، وهذه مقتطفات وإشارات سريعة لن تحيط بمواضيع مجلة رزينة جداً من (330 صفحة)، لقد أصابتني الغيرة بمستواها الفكري الذي استطاعته وزارة (دينية) في بلد خليجي.

وهنا أستعيد الحنين المفقود لكويت (سلسلة عالم المعرفة الصادر عن مجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت)، الذي كان انعكاساً لواقع ثقافي كويتي متسامح ومنفتح على العالم، وليس مجرد (مكياج ثقافي) يغطي تحته تجاعيد وترهلات الواقع الذي يحكيه أهل الكويت فهم أدرى بشعابها فما نحكيه عن دول الخليج هو ما نحبه فيهم بصفتنا العربية أما بصفتي الوطنية فأنا أغار منه (غبطة وليس حسداً) وأتمناه عندنا لأنه يليق بنا فنحن من نستضيف كل عام نخبة العالم الإسلامي في موسم الحج لنرى بعضهم وهو يريد منا أن نتحول على مستوى (عقولنا) إلى متحف تراثي لا يجيد سوى (أطروحات فكرية لا تتجاوز القرن السادس الهجري فإن تطورنا وتوغلنا في التجديد فأقصى حد لنا هو عام 790هـ/1388م، حيث توفي الإمام الشاطبي وترك كتابه الموافقات)،أما بصفتي الوطنية فأنا أغار منه (غبطة وليس حسداً) وأتمناه عندنا لأنه يليق بنا فنحن من نستضيف كل عام نخبة العالم الإسلامي في موسم الحج لنرى بعضهم وهو يريد منا أن نتحول على مستوى (عقولنا) إلى متحف تراثي لا يجيد سوى (إطروحات فكرية لا تتجاوز القرن السادس الهجري، فإن تطورنا وتوغلنا في التجديد فأقصى حد لنا هو عام 790هـ/1388م حيث توفي الإمام الشاطبي وترك كتابه الموافقات) فكيف لا أغار ونحن في عام 1443هـ/2022م وكل ما حولنا حديث ومتطور وقد وفرته الدولة وبقيت عقول الكثير منا محجوزة فيما قبل ستة قرون، ولو لا هذا الاستثنائي الشجاع الشاب (ولي العهد) لما صنعنا هذا الفارق الذي منه قدرتي ككاتب رأي أن أطرح مشاعري في (الغيرة الثقافية) دون خوف أو قلق من سدنة وحراس العقول السجينة في القرن السابع الهجري.