من الشائع، عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب، أن يقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولا، وأن تعصب هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيًا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية.

ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية. غير أن هناك حالات قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف: أعني حالات يبدأ فيها التعصب لدى الأقلية، وتضطر الأغلبية إلى القيام بردود فعل دفاعية ضدها، أو إلى ممارسة تعصب مضاد أشد وأعنف من التعصب الأصلي.

وقد شهد عصرنا الحاضر نموذجًا فريدًا لهذا اللون من التعصب في روديسيا وفي جنوب إفريقيا، حيث تمارس أقلية بيضاء من أصل أوروبي اضطهادًا جماعيًا شاملًا ضد أغلبية إفريقية من سكان البلد الأصليين. ذلك لأنه، على الرغم من وجود أوجه تشابه قوية بين هذا النوع من الاضطهاد العنصري وبين نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بينهما فارقًا بنائيًا لا يمكن تجاهله؛ هو أن الأول تعصب عدواني من الأقلية تجاه الأغلبية، التي تمارس التعصب على أقلية مغلوبة على أمرها. ولا شك في أن تعصب الأقلية ضد الأغلبية أشد ألوان التعصب شراسة، إذ إن هذه الأقلية تدرك أنها -من الوجهة العددية على الأقل- في مركز الضعف، ومن ثم فهي تعوض ضعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالة لا تسمح لها بالانقضاض عليها.

وكانت من أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب إفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين.

أهم الأسئلة التي يثيرها التفكير الجدلي في ظاهرة التعصب، هو السؤال عما إذا كان التعصب منتميًا إلى البناء الأعلى superstructure، أو إلى البنـاء الأدنى أو الأسـاس infrastructure أعني عما إذا كان التعصب ظاهرة تفسر بذاتها، أم لا تفهم إلا من خلال ظواهر أخرى أكثر أولوية منها.

ونستطيع أن نقول، بوجه عام، إن التعصب كان يفسر بذاته في العصور القديمة التي كانت كل الأسس فيها خافية، وكانت الأبنية العلوية فيها هي كل شيء. أما في عصرنا هذا، عصر الكشف عن الأسس الخبيئة، وفضح الأسباب الحقيقية المستورة، فقد أصبح التعصب يرد دائمًا إلى أصول أخرى أسبق منه وأقدر على تفسيره.

ولقد قام علم النفس بدور مهم في الكشف عن الجذور العميقة للتعصب في النفس البشرية. ولكن الذي يعنينا هنا أن تفسيرات علم النفس ذاتها تعد في نظر الكثيرين منتمية إلى البناء العلوي، على الرغم من أنها تتركز على الجذور الخفية، اللاواعية، لظاهرة التعصب. أما البناء الأساسي، الذي يقدم تفسيرًا كافيًا لهذه الظاهرة، فهو في نظر هؤلاء البناء الاقتصادي.

فالتعصب، تبعًا لهذا التفسير، لا يعدو أن يكون مظهرًا من مظاهر استغلال الإنسان للإنسان، سواء في المجتمع الزراعي أم في المجتمع الصناعي. إنه التبرير الايديولوجي للاضطهاد الواقع على فئات معينة يستغل المجتمع طاقتها دون أن يمنحها حقوقها المشروعة.

1971*

*أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة «1927-2010»