نعود لمفهوم جلد الذات الذي يستثمره الكثير من (الأكاديميين العرب) كمراوغة لغوية تبرر (كسل بعضهم وعجز بعضهم الآخر) عن ممارسة الحفر المعرفي في أسباب تخلف الواقع العربي عن المنافسة في الحضارة العالمية الحديثة على جميع الأصعدة التي تنتهي وفق مناهج البحث بعبارة (جي) وأقصد (إبستمولوجي /أنطولوجي /أنثربولوجي /فينومينولجي /أركيولوجي... الخ).

ولأن بعضهم كسول وبعضهم عاجز، يعمدون إلى مصطلح (جلد الذات) لوصم كثير من المؤلفات العميقة المهمومة بصدق في قراءة الواقع العربي، والتي تعود إلى مؤلفين معدودين بأرقام لا تتجاوز خانة العشرات طيلة قرنين من محاولات الاستقلال أولاً، ثم النهضة العرجاء بسبب تغول الأصولية العمياء التي كسرت أحد أقدام النهضة العربية بعنف وبشاعة، ولا أقصد الأصولية بالمعنى الديني فقط بل أقصد الأصولية التي تجدها حتى في الماركسية ليصبح النص الماركسي منقسماً بين أهل الرأي وأهل الحديث، بين سلفيين يصرون على قراءة الواقع العربي من خلال (مصانع وعمال) في واقع (مانيفاكتوره) غير موجود على أرض الواقع العربي ــــ وإن وجد فقد جرفه العثمانيون لصالح إسطنبول ـــــ فثقافة (الغزو) متجذرة في الواقع العربي أكثر من أي ثقافة (إنتاج) بل حتى أخلاقيات (الغزو) والإعلاء من قيمها تفوق بمراحل أخلاقيات (الإنتاج) ليتحول البلد الزراعي بأنهاره إلى بلد صناعي بقوة (الديكتاتور) لا بقوة التراكم الحضاري للثقافة والعلم، فإذا سقط الديكتاتور انهار كل شيء، بينما الواقع الصناعي الألماني استطاع الوقوف على قدميه بدون هتلر لوجود أرضية واقعية للنهضة الصناعية عبر تراكم تاريخي للثقافة والعلم توصل لهذه النتيجة الطبيعية، أما الأصولية الدينية فقد عاشت انشغالاتها الهستيرية في تكفير من ينشغل عن صلاة الاستسقاء بحفر بئر، فكيف تقول هذه الأصولية عمن يريد استمطار السحاب!؟!!.

نعود لمفهوم جلد الذات الذي سكه وروج له مجموعة من (الأكاديميين الكسالى أو العاجزين) ولأنه مصطلح اختزالي لا يرهق العقل فقد تلقاه بالقبول والترويج أنصاف المثقفين من أولئك (الأكثر كسلاً والأكثر عجزاً)، واستمر مصطلح (جلد الذات) عقبة في وجه كل باحث مجتهد يتجنب تسمية الأشياء بأسمائها في قراءة الواقع العربي، فيجب أن يسمي (معركة الجمل وصفين) اختلاف وجهات نظر، أو يصفها بطريقة الوقوف مع أحد أطراف النزاع بشكل (أسطوري) بينما المسألة وفق المعارف الحديثة ليست سوى (صراع سياسي) على السلطة تحت مبررات دينية عند كل طرف، لا تصنع في زمننا هذا سوى مجموعة من الخارجين على نظام الدولة الحديثة يحملون أسلحة مستوردة من روسيا وأمريكا، يركبون سيارات جيب من اليابان، ويصرخون بدولة الإسلام في العراق والشام/داعش، ليستجيب لهم مجموعة تعيش (الكهف التاريخي) نفسه، ليحملوا الأسلحة نفسها ويركبون السيارات المستوردة نفسها، ويصرخون نحن (الحشد الشعبي وحزب الله).

بقول آخر: الإضاءة العلمية الدقيقة للتاريخ العربي والواقع العربي ليست جلداً للذات بحال من الأحوال، لأن جلد الذات ـ كما أراه ـ هو الحروب الأهلية بسبب السوط الطائفي، جلد الذات هو القتل بسبب السوط القبلي، جلد الذات هو سحق المرأة بسبب السوط الذكوري، جلد الذات هو أن تقول (الثقافة العربية والواقع الحضاري العربي بخير) إنه جلد ذات عن طريق سوط التهكم (واستغفال العقول) بطريقة فجة تنفي عن المثقف (احترامه لذاته) عدا أن يحترم عقل القارئ، فيكفي الاطلاع على عدد الأميين في العالم العربي البالغ سبعين مليون نسمة ولا تزال نسبة الأمية عند الإناث ضعفها عند الذكور، فيهرب المثقف من هذا الحرج بالحديث عن دولته ونجاحها في محو الأمية متجاهلاً خطورة وجودها الجغرافي في وسط إقليمي أمي فقير، وما يثيره ذلك من متاعب سياسية واقتصادية واجتماعية على المدى القريب والبعيد.

عندما تزور متحفاً في قلب أوروبا يستعرض أدوات التعذيب المستخدمة في القرون الوسطى، فهل يعني ذلك أن الأوروبي يجلد ذاته بشكل علني وفج باستعراض أساليب أجداده في ممارسة السلطة الدينية والسياسية، عندما يصدرون كتباً بلغاتهم عن فظائع الحربين العالميتين ويصدرون قوانين تحمي الأقليات وعلى رأسها اليهودية من تغولهم كمسيحيين فهل يجلدون ذواتهم أم يحفظون تاريخ أخطائهم كي لا يكرروها بقدر استطاعتهم، عندما يكتب نعوم تشومسكي في نقد السياسة الأمريكية فهل نختزله بأنه يمارس (جلد الذات)، عندما يكتب عبدالله القصيمي (العرب ظاهرة صوتية) هل نختزل كل هذا الجهد الفكري النائح الصارخ بأنه (جلد الذات)!

إن جاز لنا القول في ختام هذا المقال لوصف مختزلي الجهود المعرفية العربية بأنها (جلد الذات) فسنقول إنهم سلالة وذرية من اختزل (الهزيمة العربية) الحقيقية وسماها (نكسة)، كنوع من التفاؤل الجيد الذي ساقنا إلى (كامب ديفيد) كحل واقعي يليق بحقيقة واقعنا العربي من المحيط إلى الخليج، وكما استوعبت أوروبا وجود الاحتلال العربي للأندلس طيلة ستة قرون، فسنحتمل لعشرات السنين الوجود (الصهيوني) داخل فلسطين حتى يحصل (الانقلاب المعرفي) الذي أتاح لأوروبا استرداد إسبانيا، وأقول (انقلاب معرفي) وليس (انقلاب ثوري أو عسكري)، فالانقلاب المعرفي داخل الإنسان والمجتمعات يشبه انقلاب الدودة إلى فراشة، أما (الانقلاب الثوري/العسكري) فيشبه انقلاب الفصول إلى شتاء طويل.

المكان والانسان هو المكان والانسان، لكن الصقيع يؤلم العظام، والناس تعيش الإقامة الطوعية في منازلها بحثاً عن وجبة ومدفأة، بانتظار زوال الشتاء الفكري بزمهريره وعواء ذئابه.