خلافاً لكل التوقعات والانطباعات المسبقة، وخلافاً للأجواء التي أشاعها الأوروبيون والإيرانيون بعد اجتماعات مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل مع وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان والأمين العام لمجلس الأمن القومي علي شمخاني... كان فشل جولة المحادثات غير المباشرة في الدوحة سريعاً ومفاجئاً للأمريكيين والأوروبيين، وحتى لجزء كبير من الوسط السياسي الإيراني. شكل هذا الفشل انقلاباً على كل ما أمكن الاتفاق عليه أو تسويته في فيينا، بالتالي أعاد المفاوضات إلى المربع الأول، لذلك قال المسؤول الأمريكي الذي لم يذكر اسمه لـ«رويترز»، إن فرص إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 باتت «أسوأ» مما كانت عليه قبل الدوحة «وستزداد سوءاً يوماً بعد يوم». لماذا؟ لأن الوفد الإيراني جاء بـ«مطالب غامضة» وأعاد فتح «قضايا سبقت تسويتها» وطرح «طلبات لا علاقة لها بالشأن النووي». وهكذا بدا كأن الجانب الإيراني الذي جاء إلى الدوحة هو غير الجانب الذي أعطى الموافقة على استئناف التفاوض، فلماذا جاء ومن يمثل؟

هذه المرة الأولى التي يظهر فيها الموقف الإيراني متناقضاً علناً إلى هذا الحد. ولا مبالغة في تفسيره بأن هناك فريقاً يريد الحصول على «المزايا الاقتصادية» لتفادي إغراق الاتفاق النووي تعقيدات أزمة حرب أوكرانيا واحتمال تحول تعثره إلى تهديد أمني تفضل إيران تجنبه. أما الفريق الآخر فيراوح بين تشديد الشروط للحصول على أكبر تنازلات أمريكية، والمناورة والمماطلة لأنه يرفض أي قيود على البرنامج النووي ولا يحبذ العودة إلى اتفاق 2015 ولعله يراهن على تقدم كبير نحو «القنبلة» النووية، لتفاوض إيران عندئذ من موقع أقوى. كان المسؤول الأمريكي إياه أشار إلى أن النقاش الحقيقي المطلوب الآن هو «بين إيران وإيران لتقرر ما إذا كانت مهتمة بالعودة المتبادلة إلى الاتفاق» وقال: «لسنا متأكدين من أنهم يعرفون ما يريدون»... والحديث هنا ليس عن «معتدلين» و«متشددين»، بل عن طرفين إيرانيين مرتبطين بالمرشد وبـ«الحرس الثوري»، وموجودين في صفوف المحافظين المسيطرين على الحكم والحكومة ومجلس الشورى.

مما قيل إيرانياً في تبرير القرار المرن بالعودة إلى التفاوض في الدوحة، إن فترة وقف التفاوض منذ مطلع مارس (آذار) الماضي وتبادل الرسائل مع الجانب الأمريكي كانت وقتاً ضائعاً ولم تجن إيران فيها أي مصلحة، بل ظلت على شروطها و«خطوطها الحمر» مكررة أنها تنتظر حسم أمريكا خياراتها بـ«قرار سياسي»، أي أن تتنازل، فيما كانت واشنطن تردد أن طهران مطالبة بموقف، أي تتنازل. كان الجانب الأوروبي وحتى الروسي اعتبر أن الجوانب التقنية في الاتفاق الجديد أنجزت، ولم يبق سوى نقاط تتعلق بالعقوبات. هنا شاع أن رفع «الحرس الثوري» من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية هو الشرط الذي يؤخر توقيع الاتفاق، وقبل ذلك كان شرط الضمانات السياسية المطلوبة من واشنطن لمنع أي إدارة أمريكية مقبلة من الانسحاب مجدداً من الاتفاق كما فعلت إدارة دونالد ترمب، لكن الموقف الأمريكي كان محسوماً باستحالة تلبية هذين الشرطين، وبذلك خسر الإيرانيون ما كانوا يعولون على إظهاره كـ«انتصار» على أمريكا.

على الرغم من أهمية المسألة المتعلقة بـ«الحرس» بالنسبة إلى طهران كان ملاحظاً أنها لم تركز عليها إعلامياً، أما واشنطن فناقشتها من زاوية أن منع إيران من حيازة سلاح نووي أكثر أهمية من فرض عقوبات على «الحرس»، لكن مجرد رفعها كان سيلقى معارضة واسعة في الكونغرس، لذلك حاولت واشنطن معالجة عقدة «الحرس» ببعض الصيغ ومنها إبقاء العقوبات على «فيلق القدس» والفصائل متعددة الجنسية التابعة له، إلا أن الإيرانيين رفضوها، وتبين في الدوحة أنهم لم يعودوا متمسكين برفع العقوبات عن «الحرس» لكنهم طالبوا في المقابل بإدخال تحسينات على الآلية التي اتفق عليها في فيينا لرفع العقوبات الاقتصادية، خصوصاً بالنسبة إلى عودتهم تلقائياً إلى نظام التبادل المالي (سويفت) وحصولهم على الأرصدة والأصول المجمدة في البنوك الخارجية. في هذا الإطار طالبوا برفع العقوبات عن «شركة خاتم الأنبياء للبناء»، والمعروف أن هذه الشركة هي الذراع الاقتصادية لـ«الحرس» وتسيطر على شبكة واسعة من القطاعات (نفط، غاز، بناء...)، وبطبيعة الحال لم يكن الجانب الأمريكي مستعداً لمناقشة هذا الطلب إلا مقابل تعهدات موثقة بأن يعدل «الحرس» سلوكه الإقليمي.

ولكي تكتمل الصورة فإن الإيرانيين عادوا لمطالبة واشنطن بـ«الضمانات السياسية»، ليظهر بجلاء أنهم جاؤوا للتعجيز لا للإنجاز. واللافت أن وكالة «تسنيم» التابعة لـ«الحرس» فاجأت كل الأطراف ببث خبر «انتهاء المحادثات» حتى قبل أن يتوصل الأمريكيون والأوروبيون والقطريون إلى هذه النتيجة، وفيما كانت الخارجية الإيرانية لا تزال تقول إن المحادثات «إيجابية». ليس مؤكداً أن الموقف اتضح لأمير قطر بعد اتصاله بالرئيس الإيراني، فالأخير ينتمي إلى الفريق الذي يريد اتفاقاً وشيكاً لأن حكومته بحاجة ماسة إلى أموال للبدء بتنفيذ بعض من خططها الاقتصادية، والأرجح أنه لم يكن على علم بنيات الفريق الذي ينتمي إليه كبير المفاوضين علي باقري كني. عاد إبراهيم رئيس القريب من المرشد و«الحرس» إلى الوضع الذي كان عليه «الإصلاحي» حسن روحاني، فالعقوبات و«الحرس» يكبلان أي سياسات مرسومة للتخفيف من الضغوط على الاقتصاد.

لكن أين المرشد علي خامنئي في هذا الصراع بين الأجنحة؟ فالمعروف أن القرار في أي شأن نووي يعود إليه، ولا بد أنه دعم تعيين باقري كني لإدارة التفاوض مع علمه أن الرجل قريب من المفاوض السابق سعيد جليلي ورافقه في كل المناصب التي تنقل بينها باستثناء عضويته الحالية في مجلس تشخيص مصلحة النظام، ثم إن كليهما يعارض منذ 2014 أي اتفاق نووي. وكان جليلي بعث مطلع فبراير الماضي برسالة إلى المرشد يطالب فيها بالانسحاب من الاتفاق النووي وزيادة تخصيب اليورانيوم إلى 90%. ويبدو أن الجناح الأكثر تشدداً بات أكثر انتشاراً ونفوذاً، بدليل أن «خطة العمل الاستراتيجي» التي وافق عليها البرلمان هي التي جرى الاستناد إليها لتقليص التزامات اتفاق 2015 وزيادة التخصيب. والأكيد أن الجناح أراد وضع الأمريكيين أمام خيار إما تقديم «الضمانات السياسية» ورفع العقوبات عن «الحرس» أو تقديم تنازلات لزيادة مكاسب إيران من رفع العقوبات المتعلقة بالشأن النووي، وإلا فلا اتفاق. لا شك أن المرشد يراقب اجتهادات الفريقين لكنه منذ موافقته على التفاوض حذر من أنه «لا يثق بالأمريكيين».

* ينشر بالتزامن مع «النهار العربي»