ساءني منظر بغيض جدًا، كنتُ أنظر إليه بدهشة وشرود عقلي، المشهد جعلني أتحسر على العلم والمعرفة، وأتذكر الوقوف أمام رفوف الكتب لساعات طوال بحثًا عن معلومة صغيرة الحجم بيد أنها كبيرة القدر والمعنى لدى طلاب العلم والمعرفة أهل البيان والإحكام العلمي. المنظر البغيض كان يمارسه بعض طلاب المدارس بُعيد انتهاء الموسم الدراسي لهذا العام. كان المنظر يتضمن وضع الكتب المدرسية تحت إطارات السيارات ثم المرور عليها والإسراع من فوقها كي تتناثر وتتقطع أجزاءً صغيرة (وهو ما يُسمى باللغة العامية التفحيط وهو داء عُضال ومدمر لكل شيء الطرقات والمباني والنفوس البشرية والأوقات والعقول)، وهو في ما يزعمه من يفعل ذلك أنه تعبير عن البهجة والسرور بانتهاء السنة الدراسية في فصلها الثالث لهذا العام، ويتصوره أولئك الأشقياء أنه دليل على الخلاص والانعتاق من قيود المدرسة، تحلل من واجبات الدراسة وتحرر من ملازمة الكتب المدرسية.

هذا التعامل السيئ مع جذور الأدوات العلمية والمعرفية، وهو الكتاب، يوضح أن خللًا كبيرًا عند أولئك الطلاب في المدارس عن مفهوم الكتاب وماهيته وقيمته، بل إن لديهم خللًا عميقًا في مفهوم العلم والمعرفة وكيفية إدراك حقائقهما، وهذا التعامل في حقيقته وقبل قول أي شيء، يتنافى مع العقل الإنساني السوي، فضلًا عن أن حرمته الدينية هي قطعية في ثبوتها وفي دلالتها، وكذلك هو مجرم نظامًا، حيث إن إتلاف الكتب المدرسية التي تبذل فيها الدولة أموالًا طائلة، يُعتبر تبذيرًا وخللًا واعتداء على أصل الآلة التعليمية وهو الكتاب، فضلًا عن احتواء تلك الكتب مواد دينية وعلمية وآياتٍ قرآنية وأحاديث من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يحرم إهانتها شرعًا ونظامًا، فهذه الممارسة البغيضة من هذا الجيل الذي سوف تبني عليه المجتمعات آمالها، لهي ظاهرةٌ حريةٌ بالدراسة المعمقة وإيجاد حلول لها. ولا أعني إيجاد حلول لإتلاف الكتب، بل إيجاد حلول للأسباب والدواعي التي أوصلت أبناءنا إلى هذه النتيجة، والإقدام على ارتكاب تلك الممارسة البغيضة.

وتاريخ هذه الظاهرة عمومًا من حيث الجملة؛ وأعني إتلاف الكتب من إحراق أو رمي في الأنهار والبحار أو إتلاف بشتى أنواعه، كانت حاضرة وموجودة في القرون الماضية، بيد أن الدواعي والأسباب تختلف اختلافا كبيرًا، فمثلًا ظاهرة إحراق الكتب كانت لها أسباب دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان بعض العلماء يمارسون إتلاف الكتب حفاظًا على بقاء العلم في صدورهم، ذلك أن تاريخ العلم يوضح بجلاء ويقين أن السابقين من علماء الحديث واللغة والتفسير والفقه كانوا يعتمدون على حفظهم الشخصي، فعالم اللغة سواء كان نحويًا أم عالمًا في الصرف من أمثال سيبويه أو الخليل بن أحمد أو الكسائي أو ابن السراج أو ابن جني أو الزجاجي، يحفظون العلم ثم يملونه على تلاميذهم (أي يلقونه)، وكان التلاميذ يعتمدون على الحفظ، وهذا النوع من العلم كان هو الأصل والعمدة بل كانوا يتفاخرون بمن هو أقوى حفظًا ومن هو أقوى ذاكرةً. ومن لم يطلع على تاريخ العلماء السابقين وكتب التراجم ويتذوق العلم، لن يستطيع أن يُدرك عمق علم وحفظ هؤلاء الأئمة الأجلاء ومقدار ما قدموه من إسهام معرفي وعلمي للإنسانية بحفظهم لهذه اللغة العربية الجليلة، وذلك لأن كثيرًا من المحدثين من المعاصرين لا يزالون يطعنون في عمق حفظ أولئك الأئمة الأعلام، وهذا فقط في المجال اللغوي. أما إذا ما تحدثنا عن طرق الحفظ لدى أئمة الحديث والعلل فلسوف يظن المعاصرون أن أولئك كانوا سحرةً أو أنهم لهم طرق خارقة في مستوى حفظهم.

فإذا ما نظرنا إلى الإمام أبي الحسن الدارقطني صاحب العلل في الأحاديث وأنه قد أملاها من حفظها فتصيبنا الدهشة، وذلك أن كتاب العلل للدارقطني قد تم طبعه في أكثر من ثمانية عشر مجلدًا في وقتنا الحاضر.

لذا فقد اشتهر عن بعض العلماء في تلك العصور الذهبية أنهم كانوا يتلفون ما يكتبون حتى لا يختلط عليه الحفظ، وليس زهدًا في العلم والمعرفة كما هو مشاهد في زماننا، مع تحفظي على أي إتلاف للكتاب مهما كانت الأسباب. وإنه ليعصرني الألم عندما أسمع أو أجد من يضيق ذرعًا بالكتب أو المكتبات وخصوصًا المنزلية أو الخاصة، فلقد عانى طلاب العلم من جيلنا الذين حباهم الله بحب العلم والمعرفة وجمع الكتب المصادر والنوادر في جميع العلوم والتخصصات وتأسيس مكتبات خاصة لهم، وذلك أنهم يعانون من اضطهاد أقرب الناس إليهم بسبب كتبهم ومكتباتهم الخاصة التي تأخذ حيزًا في مساكنهم، ويُساء التعامل مع تلك المكتبات الشخصية حيث يُنظر لأصحابها أنهم تقليديون متأخرون في التمسك بتلك المكتبات التي ضاقت بها المساكن، ويتمنى من لا يحب العلم والكتب أن يتمكن من إزالة تلك المكتبات لتوسعة البيوت والشقق.

فيا حسرةً على العلم والمعرفة، و يا أسفي على تلك الكتب والمراجع المملوءة بالعلم والمعرفة التي تملأ القلوب إيمانًا ومعرفةً بخالقها، لأن العلم والمعرفة هي الطريق الحقيقي للوصول إلى معرفة الخالق البارئ المصور، الذي سجد له كل شيء.

أما إتلاف الكتاب مصدر العلم والمعرفة والضيق بالكتب في المنازل فهو مسار من مسارات إغلاق العقل وضمور تطلعات المعرفة في الذات الإنسانية، وليس هناك أي تحقيق لأي تقدم أو تطور دون الرجوع لكتاب المعرفة والعلم، فهو الطريق الحقيقي لسعادة الروح والنفس البشرية جمعاء.