هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت، ربما لست في المكان المناسب، رغم أنك التقيتهم وجهًا لوجه، بعضهم كان لقاء عابرًا كمحمود درويش، بعضهم بضع جلسات كأدونيس، لكنها مع رفاقك الشباب قبل عشرين عامًا، ربما سيذكرهم أدونيس لأنهم شعراء ولن يتذكرك.

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، هل تذكر من وزع دواوينه على كل الشعراء الذين كنت معهم، ثم توجه لك بكتاب أخير وقال: لن تنفعك دواويني بشيء، لقد كتبت لك إهداء على هذا الكتاب الذي يصلح لك وأعطاك: (اغتيال العقل) لبرهان غليون، لتعرف معنى أن تخرج من ذاتيتك لتعطي الناس ما يحتاجونه، لا ما تريده أنت، إنه عبدالعزيز المقالح الإنسان إلى أقصى مدى.

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، رغم أنك التقيتهم وجهًا لوجه، لكنك تذعن لدابة الزمن تأكل منسأة الذاكرة فتريد مسابقة الوقت إذ ترى بعضهم يترجلون عن صهوات أفكارهم/أشعارهم/أجسادهم ليبقوا روحًا خالدة كجارالله عمر أو علي الدميني، أو حتى أبوك الذي سقاك: (لا تكذب) فعشت طيلة عمرك تمارس (حماقة الصدق).

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، رغم أنك تمنيت لقاءها لكن أخاك زكي الصدير كان يتعلل بأن الكبير المرموق محمد العلي موجود الآن في لبنان وفي أحيان أخرى، موجود لكن صحته لا تحتمل الزيارة... حتى فات الوقت وضاعت الفرصة فتستعيد لقاء محمد العلي المتلفز مع أحمد عدنان الذي حرث ذاكرة العلي بشمولية لن تجدها في لقاء آخر.

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، كيف تنسى الأديبة الجليلة ليلى العثمان قبل قرابة العقدين، وقد احتملت نزق أسئلتك: كيف سيدتي ما زلتي بهذه الأناقة والجمال؟ ثم تقتحمها بسؤال آخر عن صراع المتطرفين معها وهي صامدة كالجبال وعجز رفيقتها الأكاديمية عن مجاراتها في الصلابة والقوة، ثم لا تدعها تكمل لتسألها عن آخر أعمالها فتتجاهلك متوجهة بحديثها لرفاقك الدائمين (الشعراء).

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، كيف تنسى السيدة الفاضلة سهير في الأردن وهي تحكي لك عن والدها إسحاق الخطيب (مواليد عين كارم عام 1929م) فتحرص على لقائه فتدعوك وزوجها إلى وجبة عشاء في حديقة منزلهم، وعندما تلتقي والدها لا يبقى في ذاكرتك من حديث روحه الخالدة سوى صدق البوح في حديثه عن زوجته التي سبقته بالرحيل ثم يدرك نزق روحك فيسألك بسؤال مباشر ومختصر: ما الذي تريده تمامًا من لقائي؟ فتشير بكل طفولة فجَّة إلى رأسه من الجهتين بكلتا يديك وتقول: هل يمكن أن تنقل لي كل ما في هذا الرأس في ساعة واحدة فيبتسم ويقول: روحك الفائرة تعجبني لكن لا تسقطها على حركة الشعوب والدول، فحتى المستحيل في زمن ما، سيصبح ممكنًا بعد عقود، إن فهمت ديالكتيك التاريخ، ومثلك سيحترق كحطبة في موقد إن لم يفهمه.... قبلةٌ على جبينك الطاهر إسحاق إسماعيل الخطيب، ولروحك الرحمة والسلام.

هناك أسماء لا تستطيع الكتابة عنها، ربما لم يحن الوقت وربما لست في المكان المناسب، رغم أنك التقيت بعضها عبر (آلة الزمن/الكتاب) لتقرأ لفلان وفلان منذ (رياض الصالحين) مرورًا بالشقيري في (السنن والمبتدعات) وأنت لم تبلغ الحلم، ثم تكبر لتقرأ لفلان وفلان وعشرات الفلون ومنهم أحمد فارس الشدياق الذي كنت تلقاه في مكتبة الجامعة واقفًا بجوار مقامات الهمذاني والحريري التي قرأتها، ولم تلمسك كما لمستك لغة أحمد الشدياق، فتتجاهل بعض محاضراتك بكلية الشريعة مستمتعًا بقراءة (الساق على الساق في ما هو الفارياق)، وتشعر أنك تعيش معه وتثمل بلغته أكثر مما تعيش وتثمل بلغة أساتذتك وشيوخك في الجامعة، كان عالمه أوسع من عالم (المطاوعة) في القرن العشرين رغم أنه توفي عام (1887م) لكنها الروح المثقفة عندما تتجاوز الزمن لتقتحم روح طالب في السنة الثانية من كلية الشريعة لتفسد عليه دراسته فيتخرج بالكاد بتقدير (مقبول)، ثم ترتطم بعدها وأنت في سفر بعيد عن أهلك بكتاب (هذه هي الأغلال) لعبدالله القصيمي قبل ربع قرن فتمسك ورقة وقلمًا وترسل لوالدك: أبي لقد تحررت، ابنك لم يعد الدرويش الأول، لم أعد أصدق حكايا السعالي والوعالي، أصبحت عقلانيًا أكثر، وعند عودتك من سفرك يقول لك والدك: أفكارك تبقى بيني وبينك لا تخبر بها إخوتك، استمر يا ولدي في التفكير والقراءة ولا تقل إنك تعرف مهما امتد بك العمر، هل وفيت بالوعد؟، ربما فها أنت تفتح باب الخمسين من عمرك ولم تخرج في لقاء صحفي أو تلفزيوني، لأنك كما أخبرك أبوك ما زلت صغيرًا (لا تعرف شيئًا) فكيف ستحتمل السبابة ترتفع لمئات البشر يشيرون بها: هذا الذي يزعم أنه يعرف، لقد بقيت مجرد كلمات على ورق الصحف، نفخ فيها الألمعي علي فايع بعض الروح لتكون (آفة الحرس القديم).

وعشت وفيًا لعزيزتك الوطن رغم ظروفها، وعزاؤك في ارتحالك مع القراءة والكتابة أربعة أولاد ذكور (سياط الكهنوت، حجامة العقل، أضحية المعبد، آلزهايمر تاريخ) وابنة واحدة (حرية الرأي والتعبير بين السيادة والعولمة).

هل انتهيت؟ لا لم تنته، لكنها طقطقة خفيفة لرقبة الذاكرة، على شكل مقال، من مكان لمكان، فمن لقاء عبدالرحمن الغابري الفوتوغرافي اليمني العتيق بصحبة مستشرق ألماني يبحث عن لغة قديمة في صحراء حضرموت ويظنها تنقرض، إلى من كنت تزوره في صنعاء، وتخرج من عنده وكأنك بشعور العجز والأمية لم تقرأ أي كتاب، إنه محمد عبدالسلام منصور الذي يعرف (أشياء كثيرة عن كل شيء) بالمعنى الحرفي للكلمة فمن أقصى دقائق الفقه والتفسير إلى أقصى مناهج التفكير الفلسفي واللغات، من الإمام الشوكاني والشافعي إلى فويرباخ وماركس، من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني إلى براعته اللغوية في ترجمة الأرض اليباب للإنجليزي إليوت، ثم أعطاك الترجمة رفق كتابه (أهمية العقل) مرفقًا إهداءه بكلمات كلها تواضع رفيع لا يملكه إلا العرفاء العارفون.

هل تخففت من التواء رقبة الذاكرة بهذا البوح؟

نعم تخففت بقدر ما يناسب الوقت والمكان، ولهذا اختزلت ربع قرن من التفاتات رقبة الذاكرة في مقال، فلقد أصاب الوهن هذه الرقبة من حياة خاملة آبت بها الأقدار إلى أولئك الموصوفون بأنهم (المارُّون بين الكلمات العابرة)، ويواسي آلام العنق إنها رقبة صغيرة جدًا بجوار كبار شاهقين منذ محمد حسن عواد مرورا بحمزة شحاته وحمد الجاسر، وبعدهم جيل عريض كبير يطول سردهم حاول الغذامي عن غير قصد اختزالهم في ذاته، وعزاؤك في جيلك الصغير بعض رفاقك من (الشعراء والروائيين)، وما عدا ذلك قراءات في كتاب (عزاءات الفلسفة).