منذ نعومة أظفارنا ونحن نتخذ قرارات مبنية على خيارات نقابلها في مسيرة حياتنا. عندما يكون الخيار واضحا وكفته راجحة يكون القرار سهلًا ولا يحتاج إلى تفكير، ولكن عندما يكون الخيار ما بين أمرين على نفس الدرجة من المميزات والسلبيات، يكون الخيار صعبًا وهنا نجد ما يُفرِّق ما بين من يمشي مع التيار وبين من يدخل عاملا لا يقاس بنفس الطرق التي تقاس عليها بقية الأمور، مثل الحجم والارتفاع والوزن والكتلة، أو حتى النسبة، بمعنى لا يدخل في الحكم أرقاما فقط بل يحتكم أيضا إلى رؤية وقيم ومشاعر.

لنوضح الصورة أكثر؛ فرضًا أنك خريج جديد وأمامك خياران ما بين أن تصبح لاعب كرة أو تصبح محاميا، هنا تجهز ورقة وتقسّمها بخط في الوسط وتدون في الجزء الأعلى إيجابيات المحاماة على اليسار وإيجابيات كرة القدم على الجانب الأيمن، وفي الجزء الأسفل من الورقة تضع سلبيات كل مهنة تحت إيجابياتها، المهم هنا قد تجد أن ما خرجت به لا يساعدك على الاختيار فالأمر متساوٍ بالنسبة للخيارين من حيث الإيجابيات والسلبيات، ماذا تفعل هنا؟ هل تقرر بناءً على أرقام ونسب؟ هل تنتظر الحظ بأن يفتح لك بابا ويغلق آخر؟ هل تسلم الأمر لشخص آخر كي يختار لك؟ أم تغمض عينيك وترمي قرشا على الورقة لترى أين سيستقر وتختار؟!

الآن من خبرتي الشخصية وجدت نفسي أسير في الحياة حسب قرارات غيري واختياراتهم، إلى أن دخل عامل جديد في عملية الاختيار. حدث هذا عندما واجهت قرارا مصيريا؛ الاختيار ما بين تخصص الأدب الإنجليزي وبين تخصص التنمية البشرية والتربية والتعليم. عندما أجريت عملية القياس والمقارنة ما بين التخصصين كانت كفتا الميزان متساويتين، إلى أن دخلت البصيرة على الخط وقلبت الموازين!

عندما ندعو الله بأن ينير بصيرتنا، نكون هنا ننطلق من أرضية إيمانية صلبة مكونة ليست فقط من الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى والإيمان بقدره وقضائه، بل أيضا ننطلق من منظومة قيم تعمل على التنبيه والتوجيه لخطواتنا واختياراتنا.

بدخول البصيرة كعامل إضافي إلى عملية الاختيار، خلق عندي الاستطاعة في أن أتخيل كيف أريد أن أكون في المستقبل؛ ما هو الأمر الذي سأقدمه لغيري من أبناء وطني ومجتمعي، والأهم من ذلك كله مكنني من فهم أن الطرق التي ظننت أنني مجبرة على اختيارها، كانت عبارة عن عمليات تجهيز وبناء لما سأحتاجه في مسيرتي القادمة.

لقد كانت محاضرة واحدة دخلتها مستمعة كضيفة تحت إصرار من صديقة لي، حتى أشهد بنفسي روعة أستاذة وثراء معلوماتها! ولكن هذه المحاضرة أشعلت ضوءًا بداخلي؛ فجأة رأيت روابط بين المسارات التي سلكتها؛ كل خبرة وكل حدث كان بمثابة تأهيل وتدريب لاختيار سوف يعترض طريقي، لقد فُتح أمامي خيار جديد لم أفكر به من قبل؛ التنمية البشرية تحت مظلة كلية التربية والتعليم. ووجدت نفسي أقارن: آداب أم تربية وتعليم؟ صحيح أنني لم أصل إلى هذا المفترق باختياري، ولكن قرار المضي في أي طريق منهما كان لي ولي وحدي!

الخياران كانا بنفس المستوى من الإيجابيات والسلبيات من حيث حجم المجهود الدراسي وفرص العمل والمردود المالي وإمكانية الاستمرار في الدراسات العليا عند عودتي إلى الوطن، وكانت القائمة طويلة لكن عندما ابتعدت ونظرت إليها من منظور شخصي منبثق من البصيرة ومنظومة القيم، رجحت كفة الخيار الجديد.

لماذا اخترت أن أتحدث عن القرارات الصعبة ونحن في خضم قمة هامة تقام على أرض الوطن في قلب مدينتي العزيزة على قلبي؛ جدة؟ لأنني وجدت أن ما اتخذه ولي عهد البلاد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، من قرارات متواترة وعديدة كان هنالك عامل واحد مشترك بينها؛ ألا وهو أن الاختيار كان فيها صعبًا، ولكن الذي كان أصعبها، من وجهة نظري، هو عندما وجد أنه أمام خيارين إما أن يجمد عجلة التنمية والتطوير ليلتفت لموجة الهجوم السافر عليه وعلى المملكة خاصة من الإعلام الغربي، وإما أن يركز على عمليات تفعيل الرؤية التي قام بهندستها بكل جهد وحرفية!

ما حدث هو أن ما دخل على الخط كان بالتأكيد عامل البصيرة ومنظومة القيم، لأن من الواضح أن كفة الخيار الثاني رجحت، فسار في طريق التنمية والأمن للبلاد، ولم يلتفت إلى عوامل التشتيت والبلبلة خاصة من أصحاب الفقاعات الفارغة، والناتج أنه من خلال إنجازاته على أرض الواقع تمكن من جذب اهتمام الجميع إقليميا وعالميا، لا وبل جعلهم يقفون ليشهدوا عظمة الصقر وهو يحلق ويناور وينقض، وبهذا تمكن من تحويل المهاجم إلى حليف وفوق هذا وذاك استضافه على أرضه، وعلى مرأى ومسمع الجميع، وقف شامخا وسط شعب آمن به وبرؤيته؛ سمع النداء فتحرك ليحقق معه حلم مملكة بعلوم المستقبل الواعد ورواسي التراث الراسخ والتاريخ العريق، وليس هذا فقط بل جعل العالم يسعى ليتابع ويشهد، ويسجل في كتب تاريخه حلم أمة عزة وطن وبصيرة شاب.