ما هي الثقافة العربية..؟ سؤال فضفاض يتهرب الكثير من الإجابة عليه بحجة مكرورة بأن معنى الثقافة يحتمل دلالات واسعة لا يمكن الإحاطة بها... إلخ، بينما قد يختزلها البعض في سؤال أكثر تحديدًا فيقول: هل الثقافة العربية منذ مئات السنين جزء من الخريطة الثقافية الشرقية أم جزء من الخريطة الثقافية الغربية؟.

وبقول آخر: هل العالم العربي أقرب في تكوينه الثقافي للغرب أم للشرق؟ وسنحاول في هذا المقال الوصول عبر حفريات المعرفة إلى جذور الثقافة العربية، ولنبدأ بتاريخ اللغة العربية مرورًا باعتماد رسم إملائي في كتابة (الزكوة) بدلاً من كتابتها (الزكاة) في تدوين مفردات المصحف، لكننا سنرتطم بإشكال يوقف عمليات الحفر المعرفي بحجة (التابو) الذي قد يكشف أن اللغة العربية هي مولود منبثق عن سامية؛ ليراها البعض مكسور اللغة السريانية الأقدم المنحدرة من الآرامية، التي يقال إن السيد المسيح يخاطب بها تلامذته، وأن (سكان شبه الجزيرة العربية يتكلمون قديماً اللغات الآرامية والكنعانية والعبرية والحجازية والتدمرية)، لتنشأ (مملكة تدمر والغساسنة شمالاً وفي المرتفعات مملكة الأنباط وفي الجنوب ظهرت ممالك اليمن من معينيين وسبئيين)؛ لنجد التوتر الأصولي يقول لك: ابحث عن ماهية الثقافة العربية في مجال غير مجال اللغة، فتعمد إلى الحفر في مجال تاريخ الديانات في الجزيرة العربية هل كان أقرب للشرق أم للغرب؟، لنجد أن أكبر شخصية مقدسة في التاريخ العربي (محمد -صلى الله عليه وسلم) (571م/632م) قد انحازت إلى النطاق الغربي المسيحي ضد النطاق الشرقي الوثني؛ لتبقى سورة (الروم) شاهداً يتلى حتى هذه اللحظة على إرهاصات هذا الانحياز الثقافي، الذي بقي حتى هذه اللحظة كامتداد أكثر حيوية وشبابًا واندفاعًا بين الديانات التوحيدية/الإبراهيمية، مع بقاء اسم (إبراهيم) عند بعض اللغويين (اسم أعجمي).

ولمدة أربعة عشر قرنا انتشر الإسلام بالمعنى (الإمبراطوري) على معظم أرجاء المعمورة، لكنه انتشار لا يمكن إسقاطه وفق معطيات إمبراطورية تخص زمننا هذا، لا في تعداد السكان ولا في امتداد العمران، وللفهم العملي المقصود من ذلك تجدر الإشارة مثلاً إلى أن عدد الحجاج المسلمين عام 1938 الذين وقفوا بعرفة بلغ (120.000) حاج فقط، بينما التقديرات التقريبية لمجموع (سكان العالم) في القرن السادس الميلادي لا يتجاوز تعداد سكان إندونيسيا اليوم؛ أي في حدود المائتي مليون نسمة.

وفي هذا إشارة لمن يريد إعادة قراءة التاريخ وفق معطيات أكثر معقولية سبق وأن أشار إليها ابن خلدون قبل سبعة قرون في قوله: (وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع.. فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر)، لكنك ستتوقف عند هذا المستوى؛ لأن معطياتك ستفسد على الأصولية قراءتها التبجيلية للتاريخ وتصوير الفتوحات الإمبراطورية القديمة التي تتكئ على الدواب كوسيلة نقل، وعلى السيف والرمح كأدوات قتال، فكيف يتم النظر لها بنفس صراع الحلفاء مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية، بل إن ارتطام القارئ للتاريخ القديم بأن قانون تجارة العبيد كان معمولاً به في الحروب لصالح المنتصر يجعل الأصولية التبجيلية تهرب من سؤال: عدد الرقيق المسلمين الذين بيعوا بعد أي معركة انتصر فيها غيرهم؟.

وسيتدخل الأصوليون ليطلبوا منك التوقف عن تشويه (سرديتهم التبجيلية للتاريخ البشري للعرب المسلمين)، فتعود بحفرياتك إلى الدولة العثمانية التي تغلغت في الوجدان العربي، وتركت بصماتها الاستعمارية الأشد خطرًا وعمقًا في الوجدان العربي من أي استعمار آخر؛ لأن الاستعمار العثماني كان يصل إلى منابر المساجد طيلة ستة قرون، فيدعو الأئمة في المساجد لأحفاد أرطغرل، والمسألة لا علاقة لها بمفاهيم عنصرية بقدر علاقتها الشديدة بالأنساق الثقافية الفكرية لقبائل سلجوقية بربرية أورثتها لكامل فضائها السياسي طيلة ستة قرون، لنجد أن الفارسة العربية غزالة التي حاربت الحجاج الثقفي وهرب منها، ومن بعدها الملكة أروى الصليحية التي حكمت اليمن ودعي لها على المنابر، تختفي كنموذج من الفضاء العربي، ويظهر بدلاً منها ذكورية بربرية لسلاجقة أتراك تصنع (ثقافة الحريم السلطاني) وتعممها على الوجدان العربي باسم الدين، ولتجد حتى أطفال العرب وقد حملوا أسماء تشير إلى الإذعان لثقافة الغالبين (الأتراك) في كل شيء، ليتوهم العربي أن هناك تفوقًا عرقيًا في هؤلاء الغالبين، ليتسمى الطفل العربي بمفرد كلمة (أتراك/تركي)، وبعد كل هذا ترى المؤلفات تناقش (الاستعمار الغربي)، الذي بقي لعشرات السنين متجاهلين الأثر الأكبر المتمثل في الاستعمار التركي الذي خيم لستة قرون.

الإشكال الأخير الذي يعيدني للمربع القديم الذي يكاد يكون هو صلب (قضية النهضة العربية) هو نتائج صراع السرديات (الأموية الدمشقية) مع (العباسية البغدادية)، التي أتت بعدها مع (الأموية الأندلسية) المعاصرة للعباسية، ثم تداخلها جميعًا مع السرديات الاستعمارية التالية لهم منذ الاستعمار المغولي وحتى الاستعمار العثماني متجاهلين الاحتمال الكبير لتداخل وتمازج سردية الصراع العربي العربي منذ الجمل وصفين مع ما فيها من إثبات ومحو، مع سردية الصراع العربي الأعجمي منذ هولاكو المغولي ثم هيمنة السلاجقة أخيرًا لمدة ستة قرون مع ما في ذلك من إثبات ومحو، ليصبح الناتج الطويل لكل ذلك (سردية تبجيلية) لا يقبل الأصوليون المساس بها.

وهنا الطريق الآمن المختصر الذي يعمد إليه بعض المثقفين من باحثين وأكاديميين، إذ يتركوا تنظيف جروح التاريخ العربي وإخراج ما فيها من (قيح وصديد) لما يزيد على ألف عام، إذ أن ارتباط العرب بهذه السرديات المتداخلة والمتضاربة يصنع شخصيات فصامية تؤمن بالشيء ونقيضه، تؤمن بالعدل والاستبداد في نفس الوقت، تؤمن بحق أحد (الخلفاء) في وضع الذهب كأساور في عنق وأقدام كلاب صيده، وفي نفس الوقت تؤمن بحقه في رفع الخراج على الفلاحين في أرض الأنهار؛ ولهذا من حق بعض المثقفين من باحثين وأكاديميين أن يتجنبوا الضغط على الجروح التاريخية خشية الصراخ العمومي وانفجار الدمل، مما يتعارض ومهامهم الوطنية ذات الطابع (السياسثقافي)، ولهذا لا نطلب مثلاً من الدكتور فلان كمثقف متعطش لمنصب (معالي) نفس ما نطلبه من الأكاديمي الباحث فلان كمثقف متعطش للمعرفة، فالأول يطلب للذات على حساب الموضوع، والثاني يطلب الموضوع على حساب الذات، وليس لأحدهما فضل على الآخر، بل كلٌ منهما سعيد بشغفه مع اختلاف (الهجرة).

أخيرًا هناك من يحدثك عن عيوب الحداثة من خلال نقولات غربية يجلد بها ما يتصوره مستقبلنا، متناسيًا أن مستقبلنا مهما اقتبسنا من الغرب لن يكون غربيًا، كما أن اقتباس اليابان والصين عن الغرب في كل شيء تقريبًا لم يجعلهم غربيين، ولكنه باقتباساته المترجمة التي يريد إسقاطها على مستقبل الحداثة والتنوير في العالم العربي، يكرر تلك النكتة المصرية: (أوعى تصدق اللي يقول لك: اتعب عشان ترتاح «بعدين».. أنا لسه جاي من «بعدين» والدنيا هناك خربانة)!.