الارتماء في أحضان الخارج اسمه خيانة. لا عمليات تجميل يمكن أن تخضع لها هذه الحالة؛ لأنها ستكون فاشلة. لها وجه واحد؛ مظهره قبيح وباطنه أقبح. والطائفية كذلك، إن لم تكُن أكثر بشاعة وجُرماً. سرطانها سريع الانتشار، ولئيم الانتقام. الفُرقة أول أهدافها، والدم آخره. ميدان ذلك اسمه العراق. حيث قصص الخيانة والتبعية والطائفية والحرب علناً ومن وراء ستار. والعار في أصله حاضرٌ على شكل اعترافاتٍ يسوقها بعض السياسيين المتجردين من الوطنية. والدولة تصارع هؤلاء «المرتزقة»، وتنافح من أجل الاستقرار والثبات. والحكم بنهاية الأمر للأقوى من ناحية. وللضيف القادم من الشرق من ناحية أخرى.

إحدى أبرز تلك الصور الآنف ذكرها، هو ما ظهر على شكل تسريبات على لسان رئيس الوزراء السابق وأمين حزب الدعوة ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، فقد قاد دفة الحياة السياسية في العراق خلال الأسابيع الماضية نحو المجهول. وكاد يتسبب باشتعال فتيل حرب ومواجهة بين الفصائل الشيعية؛ كونه قال عنها إنها تأتمر لأمر الحرس الثوري في طهران. وبصرف النظر عن أن الرجل ليس لديه أدنى ضير في التباهي بذلك، وتجاوزه الأعراف بإشارته إلى أن الحرس الثوري يتحكم بمفاصل الدولة في العراق؛ وأنه أقوى من الحكومة؛ فإن ذلك لم يمر مرور الكرام على أقل تقدير على السيد مقتدى الصدر زعيم الكتلة الصدرية في البرلمان العراقي، وذات الشعبية الكبرى.

صحيح أن الصدر المعروف باعتداله؛ وقبل ذلك عروبته، امتنع عن الرد لفترة، وذلك كنوع من الأدب السياسي الذي ترعرعت عليه هذه الأسرة السياسية. لكنه حين وجد نفسه مضطراً للإجابة على استفسارات المؤيدين، خرج للقول إن «ما قاله المالكي يُعتبر تعديا وتحريضا على الاقتتال الشيعي– الشيعي. لقد حقنت كثيراً من دماء العراقيين في وقتٍ سابق، من بينهم المالكي نفسه». وبلغ الصدر إلى أن طالب المالكي في ما مضى بالتوبة واعتزال العمل السياسي.

وبالتزامن مع تصاعد الأزمة السياسية في العراق التي فجرتها تلك التسريبات؛ أصدر معهد واشنطن تقريراً الأسبوع المنصرم، لمح فيه إلى أن هذا الصراع من المرجح أن ينعكس سلبياً على دور أحزاب الإسلام الشيعي في العراق؛ لا سيما وأن التقرير كشف عن أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر نجح في وأد انقلاب سياسي كان يخطط له نوري المالكي.

ولفهم الأمور أكثر، فالخلاف بين التيار الصدري ونوري المالكي وتكتله ليس وليد اللحظة، بل نتيجة سنوات من التصادم السياسي والمنهجي. وهذا يُنبئ بوجود صراع مُعقد ومُحتدم بين تيارات الإسلام السياسي الشيعي في العراق، يقوم على أزمة مُركبة. والمؤشر الواضح على ذلك؛ ما يعاني منه نوري المالكي في مواجهة التيار الصدري. فالأمر أعمق بكثير من تصور أن الخلافات بينهما تقوم على أساس شخصي. كيف؟ في العراق مشروعان شيعيان تمثلها بعض تيارات الإسلام السياسي الشيعي. الأول نابعٌ من خط النجف في الفقه الشيعي الذي يرفض ولاية الفقيه، ويمثله التيار الصدري وتيار الحكمة والفضيلة بقيادة عمار الحكيم، وأساسه وطني ومحلي، وذو منهجية تتركز على نشر الإسلام في البلاد والانخراط في العملية السياسية المحلية. بينما يمثل المالكي مشروعاً مناهضاً للأول، ينزوي في إطار مشروع عابر للقارات؛ يجعل الولي الفقيه هو القائد والمرجع؛ وهذا أبرز عوامل فقدان هذا التكتل– اي تكتل المالكي- لقواعد شعبية كبيرة، باعتباره قام على النخب والمثقفين، وأن أجندته خارجية، أما التيار الصدري فيعتبر من أقوى التكتلات الشيعية من الناحية الشعبية، ويُشكله في الغالب العرب الأقحاح من الطائفة الشيعية، المعروفون بمناهضة المشروع الإيراني.

بالتأكيد هذا هو أساس الخلاف بين الرجلين، لكن في الحقيقة هناك ما يمكن ملاحظته ولا يمكن تجاهله من الأسباب. مثل أن التيار الصدري لا يُخفي رفضه التدخلات الإيرانية في المشهد السياسي العراقي. ويصر دوماً على ضرورة تشكيل حكومة بعيدة عن القوى السياسية التي تندرج تحت المشروع الإيراني. وبحسب المعلومات فإن الزعيم الصدري مقتدى الصدر رفض مقابلة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني مطلع العام الجاري، لإقناع الصدر بضم الحكومة بعضاً من الشخصيات المحسوبة على طهران. وهو ما أزعج المرشد علي خامنئي، الذي توصف علاقة الصدر به بـ«الحليف المتمرد». ناهيك عن مطالبته ذات مرة، بحماية المتظاهرين في ما يعرف بـ«انتفاضة تشرين» من الميليشيات الإيرانية، بل إن فوز التيار في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر من العام الماضي، أسهم في تغيير الخارطة السياسية في العراق، وشكل صدمة للجمهورية الإيرانية، واعتبر ذلك بداية لنهاية الهيمنة الإيرانية على العراق.

وتتمحور مخاوف ولاية الفقيه من صعود التيار الصدري حول الانفتاح على المحيط العربي السني، باعتبار أن ذلك سيضع حداً للنفوذ الإيراني ويقوض سيطرتها على الحياة السياسية العراقية، عبر التحكم برجال كالمالكي ومن يشبهه في النموذج والمنهجية. وبجمع كل هذه المعطيات يمكن لنا فهم أساس الخلاف القائم بين تيارات الإسلام السياسي الشيعي في العراق.

ويمكن لنا استيعاب؛ لماذا يجتهد شرفاء العراق في كبح جماح الخونة.

ومهما حارب المالكي وازدادت جعجعته..

فهو كمن يقف مكتوف الأيدي

والعصا في ذراعه.