كنا في أواخر سنة التخرج في الشهادة الثانوية العامة، وكانت الأسئلة آنذاك تأتي من وزارة التعليم موحدةً لكل طلاب السعودية، فلم يكن هناك أي احتمال للتفرقة والانحياز لفئة طلابية دون أخرى مع وجود الفروقات في المرجعيات الفكرية لدى الطلاب آنذاك، و قد كان مسؤولاً كبيراً في المدرسة هو الذي يُهيمن فكره على كل الطلاب في ذلك الوقت، وقد كان يتبنى الفكر الصحوي الذي كان منتشراً ومسيطراً سيطرةً كاملة ومحكمة بلا استثناءات على مفاصل وأركان المجتمع، وكان المجتمع بكل مؤسساته مستسلماً لذلك الفكر ومؤيداً له، ظناً من مجتمعنا الطيب الخلوق أنه يؤدي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في كل شؤون الحياة من تعاملات ومبادئ أخلاقية وتصرفات، وذلك لأنه مجتمع جُبل على التدين البسيط المتوارث منذ عهد النبوة، وأعني بالتدين البسيط أنه دين السماحة واليسر والفطرة السليمة ونبذ الغلو الكلامي الفلسفي، وذلك أن هذا الدين الإسلامي هو دين يسر وسهولة وينزع إلى عدم التعقيد، ومع ذلك فإنه دين متين كما قال النبي صلى عليه وسلم ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله فإن المُنبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى)، ومعنى متين أي صلب شديد، فأوغلوا: أي سيروا فيه برفق، ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه، فتعجزوا وتتركوا العمل، قال الغزالي (أراد بذلك ألا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة، بل يكون بتلطف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطريق الأقصى في التبدل، فإن الطبع نفور، ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئا فشيئا حتى تنفصم الأخلاق المذمومة الراسخة فيه، ومن لم يراع التدريج وتوغل دفعة واحدة، ترقى إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا، وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا ينفر عنه). بل إنه ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الدين يسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فالمجتمع كان ولا يزال متأسساً على اليسر والسماحة وهذا مــدرك لكل متأمل في أحوال المجتمع، بيد أن ذلك المسؤول في تلك المدرسة كان ينتهج هو ومن كان يعمل في مبتغاه ومراده ممن كانوا يسيطرون على مفاصل المجتمع، بإخراج ذلك المجتمع من تلك الصورة البسيطة المتوارثة جيلاً بعد جيل إلى صورة مصطنعة وممنهجة لها أهدافها الحزبية والسياسية والثقافية، و هذا أدركناه بعد عقود كثيرة بيد أن هناك حوادث لا تزال عالقة في الذهن بل إنها كانت مؤثرة تأثيرا بالغا في تصورات الإنسان وفي كل شاب بسيط نشأ في مجتمعنا وأدركته تلك الموجات من الدعوات الثورية في فكرها ونهجها، بل إن تلك الحوادث قد غيرت مجريات كثير من شبابنا وفتياتنا إلى تبني الصورة الجديدة المصطنعة، وهي صورة غير حقيقية وكانت متأسسة على فكر معوج مناهض لأصل تكوين المجتمعات الآمنة المستقرة، غير المتحزبة والمتشيعة لأي توجه فكري يتعارض وأصل المقصد الديني المتقرر، وهو السماحة والبساطة في الطرح الفكري، وهذه الحادثة كانت وقعت لشاب كان بسيطاً ومنفتحاً ولم يكن يعرف من التدين إلا بساطته والصلاة والصيام و أركانه المعروفة غير المعقدة، وفي يوم من الأيام حدث شيء من الطلاب بإحداث فوضى الطلاب المعروفة المعتادة، فذهب ذلك الشاب إلى ذلك المسؤول، وكان تعامله لطيفاً ومميزاً ولبقاً معه، وفي مثل هذه اللحظات تكون المداخل التي سيطر بها التيار الصحوي على المجتمع، وهي لحظات اللطف واللباقة في التعامل وإحكام السيطرة على الشباب الغض الطري بهالة وقدسية التدين المتمظهر في الشكل، فبدلاً من معاقبة ذلك الشاب على تلك الفوضى قدم ذلك المسؤول الطلابي كتبا لذلك الطالب، وهي عبارة عن كتب للمؤلف الشهير (إحسان إلهي ظهير) وهي كتب في بيان عقائد الشيعة الأثني عشرية، وهي كتب متخصصة جداً وفيها جدل ومحاورات فكرية وفلسفية تفوق تصورات شاب غض طري بسيط في فكره، بل إنه لم يك بعدُ قد قرأ أي كتاب إلا الكتب المدرسية، وتلك الكتب لها ظروفها التي كتبها فيها ( إحسان إلهي ظهير )، وهي عموماً كتب توغل الصدور لمن يقرأها منذ أول وهلة دون أن يكون لديه دراية ومعرفة بأصول الفرق وفلسفات الملل والعقائد والنحل، وإن أول قاعدة من قواعد المنهجية الحقيقية عند القراءة لأي مؤلف في علم من العلوم وخصوصاً ما يتعلق بكتب العقائد التأصيلية أن يُلم القارئ بظروف المؤلف للكتاب الشخصية والتاريخية ومرجعياته الفكرية حتى يفهم مصطلحاته و أطروحاته التي يبثها في ثنايا مؤلفه، وإن عدم مراعاة هذه القاعدة الأصيلة تجعل فهم ذلك الكتاب شيئاً صعباً و وعراً، وتلك صفات تجعل القارئ حرياً بنبذ الكتاب وعدم قراءته، وإن ما كتبه (إحسان إلهي ظهير) في كتبه كان عبارة عن ردود و توضيحات لبعض عقائد الأثني عشرية وهي فرقة من فرق الشيعة، وهذه الردود ليست إلا للمتخصصين في عمق الدراسات الأكاديمية في تخصص الملل والنحل، ولا يمكن فهم وإدراك ما في تلك الكتب إلا لمن له باع طويل علم العقائد، وقد أمضى عقوداً في فهم مدركات ومنطلقات وأسس المذاهب والفرق العقائدية، أما الشاب البسيط الذي لا يقرأ إلا كتبه المدرسية فلا أجد سبباً ومسوغاً لإنسان عاقل أن يُقدم لذلك الشاب كتباً في الردود على عقائد فرقة من الفرق الإسلامية، التي لها تاريخ طويل وكتب ومدارس وعلماء ومسارات فكرية عميقة لا يمكن لذلك الشاب البسيط أن يُدركها، وإن إبراز مثل تلك الكتب العقائدية لكل من هب ودب سواءً في الإعلام أم في سائر وسائل التواصل الاجتماعي لهو نذير شؤم ومدعاة للفرقة والتناحر من قبل كثير من الناس، ممن لا يمكن أن يميز بين الفعل والفاعل ولا يدرك الخبر من المبتدأ ولا يُميز خبر كان من خبر إن، فكيف بمن هذه حاله وصفته أن يقرأ أو يستمع لمحاورات ومناظرات في أصول العقائد والفرق والملل والنحل!!.