السير على منوال الليبرالية الأوروبية في ميدان الأسرة والدعوة لتحررها من أواصرها الخلقية كالزواج والأبناء، ليس حلا للتخلف العربي، ولن يأخذ بأيدينا للعصرنة والحضارة، بل هو دعوة لتفسخ المجتمع وتحلل أواصره الأولية.

المجتمع الأوروبي يختلف في تكوينه التاريخي والثقافي والديني عن المجتمع العربي جذريا، فأوروبا في تكوينها الأولى ذات نزعة مادية حسية، لا تقيم للعقل والدين والوعي حسابا إلا في حدود مجرد الحس ومقاييسه، وهي تقلع حضاريا من القيمة المادية، وفي لحظة الإقلاع تتحلل من قيم الوعي الإنساني والروحي، فتطلق للفرد حريته في ميدان الرغبة، وتقيده بالقيمة المادية الكلية في ميدان الفعل الجمعي، فيدور حول الإشباع ليحقق ذاته، والإبداع ليكتسب صفة العضو في المجتمع، ولا يعود العقل الأوروبي للقيمة الإنسانية والروح الدينية، إلا في مراحل تخلفه، لأن الدين والأخلاق المزيفة تظل عامل التجميع والترابط الذي يحفظ المجتمع من التحلل في مراحل التخلف المادي، فالكنسية في العصور الوسطى، رغم نشرها للخرافة، وبيعها صكوك الغفران، حافظت على وحدة الروح التاريخية والجمعية لأوروبا، ولولا الكنيسة لكانت أوروبا تحللت في غيرها من الحضارات.

لكن ما إن بدأت أوروبا مشوار الإقلاع الحضاري مجددا منذ القرن 14 و15 الميلادي، حتى سارعت لتجاوز الروح الكنسية، وتقديم المقاييس الحسية للمعرفة والحضارة لتشكل أذواق حضارة جديدة، وكان فرنسيس بيكون أول من أسس الفلسفة الحسية، ثم تتابعت الخطوات حتى جاءت نظرية رأس المال على يد آدم سميث، فاستكملت بذلك أوروبا خطة الإقلاع وخرجت تزحف على العالم لجمع رأس المال الذي يمكنها من الإقلاع والتفوق على العالم.

وإذا كانت أوروبا قد اتبعت مرغمة فلسفة التحرر المطلق من كل العادات والقيم بما فيها الرابط الأسري، وهي الفلسفة التي راجت في عصر الأنوار ما بعد الثورة الفرنسية، واستبدلت معها فكرة الإنسانية والأخلاق والعدل والمحبة، بالقيمة المادية الحسية، كقيمة كلية دافعة ومفسرة للسلوك البشري، بدءا بالرغبة كوجود مادي فطري، وانتهاء برأس المال الذي يشكل النظام الاجتماعي في صورة معايير وقيم كمية، بهدف الوصول إلى القوة والسوبر مان، كقانون للبقاء في الطبيعة، وصناعة حضارة التفوق، حسب رؤية الفلسفة الغربية، فإنها بذلك تشكل التركيب التاريخي لجسد الحضارة البشرية بمقاييسه الكمية والمادية.

بينما المجتمع الشرقي العربي في تكوينه الأساس انبثق من فكرة الدين والأساس الخلقي، فما الروح التاريخية والحضارية للإنسان العربي سوى التجسيد النفسي والاجتماعي للتركيب المزجي بين الأساس الخلقي الإنساني، والوعي الكلي المتعالي، والحقيقية الوجودية البشرية، وهذا التركيب الثلاثي يصبح قيمة حضارية عليا حينما تكتمل في تكوينها المزجي بفعل فكرة روحية أو تاريخية، تجتذب في فلكها كل وسائل وأدوات الحس والمادة ومقاييسها، فيصبح المعطى المادي أداة من أدوات الوعي التاريخي، وليس غاية عليا للحضارة.

إن مجتمعنا العربي الشرقي يقلع تاريخيا من روح الحضارة لا جسدها، فالدين والأخلاق والقيم والروابط الاجتماعية، تشكل دافعية أبجدية للروح التاريخية، ومن خلال الاندماج التدريجي بدورة التاريخ يتوالد الوعي المعرفي والقيم العقلية، ويكون الحس أداة للمعرفة لا حاكما عليها، فالعقل يتربع مهيمنا على الإدراك الحسي واللاحسي على السواء، وحتى مقاييس الدين تمر عبر العقل كمختبر كلي للمعرفة، وحاكم نهائي لمعايير وأذواق الحضارة، إذن فالمجتمع العربي الشرقي في لحظة إقلاعه تدفع به روح الحضارة ومعانيها وغاياتها الإنسانية، وحينما يتخلف يغرق في الغريزة والشيئية والصنمية كتعبير عن هيمنة الجسد ومقاييسه، إنه ينتقل من القيمة الروحية إلى القيمة المادية كتعبير عن انهيار الروح التاريخية.

بخلاف أوروبا التي تقلع حضاريا من الروح المادية، بهدف بلوغ غاية القوة المادية ذاتها، وتحقيق الإنسان والمجتمع السوبرمان، ولكي تشكل تراكما نفسيا وكميا للمادة تقوم بتحرير الجسد المادي عن العقل، لتصبح مقاييس الجسد قيما حاكمة للوعي.

وبالمختصر سلوك أوروبا الحضاري نابع من السوق، والسوق قيمه انتهازية استغلالية، احتكارية، تسويقية تعتمد الإثارة والإشباع، والسطو والحيلة، كمنهج لحصول التراكم الكمي المادي، وهي بالمجمل قيم لا إنسانية، وحينما تلتفت للإنسان بوصفه وجودا، تلتفت له في سياق كونه جزءا من مكنة الإنتاج والسوق، وليس لكونه إنسانا مكرما في حد ذاته.

بينما سلوكنا الحضاري أساسه الميزان القيمي الإنساني الذي يحمي كرامة الإنسان فإذا هدمناه انهدمت ذاتنا الحضارية وصرنا نسخة ممسوخة قيميا، جاهلة معرفيا وتقنيا، نفقد ذاتنا، ولن نكون أبدا نسخة مماثلة لغيرنا، ومن هنا نقول بكل صراحة إن الذين يدعون لتماثل القيم الأسرية والجنسية بين الشرق والغرب، إنما يعمدون لتفتيت المجتمع الشرقي ومسخه، وإفقاده خاصية وجوده التاريخي، لإعاقته عن مهمة الإقلاع الحضاري.