هناك مفردات تحتاج إلى إعادة قراءة، ومن أخطر هذه المفردات كلمة «تاريخ» فنحن على المستوى العلمي نتحدث عن «التاريخ» بتقسيمات وتفريعات ما بين

«تاريخ» و «تأريخ» بألف مهموزة، بل نصل إلى دائرة «المفاهيم» متجاوزين الدائرة القديمة لما يسمونه «مصطلحات» فأين الإشكال إذاً؟

الإشكال يكمن في أن «علم التاريخ» هو الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا قراءة الماضي الذي شكلنا «دون أن ندري» لأنه فرض نفسه على آبائنا، وهكذا دواليك مع آباء آبائنا، ولكنك مع تعدد القراءات التاريخية تكتشف أن قراءة الماضي قد تحولت إلى قراءات، تنتج سرديات تاريخية متنوعة ليست مشغولة بالحقيقة التاريخية، قدر انشغالها بإثبات أن

«الحقيقة نسبية» وبما أنها نسبية فإن سردية التاريخ «بالنسبة» لرجل الدين الصوفي مثلاً، ستختلف عن سردية التاريخ

«بالنسبة» لرجل الدين السلفي، بل إن أحجام وأدوار الأشخاص «في التاريخ»

ستختلف بين مذهب ومذهب، يكفي أن نجد مثلاً «جعفر الصادق» بحجم أكبر من اللازم في «تاريخ الفقه» عند أحد المذاهب، ونجده بحجم أصغر من اللازم عند مذهب آخر، رغم أهميته التي لا يمكن تجاوزها، عند الحديث عن «تاريخ الفقه الإسلامي» كما فعل باعتدال الإمام محمد أبو زهرة، في كتاب بعنوان «تاريخ المذاهب الإسلامية».

«نسبية الحقيقة التاريخية» لا تعني عند البعض سوى «صناعة سرديات حسب الطلب» وهذه الصناعة تحتاج إلى «عُمَّال إنتاج» وكفاءة اليد العاملة في «الإنتاج التاريخي» غير مهمة، بقدر أهمية «إغراق السوق التاريخي» بالمنتج، فلا يجد المستهلك سوى تنويعات كثيرة بأسماء مؤلفين كثر، لكنها في مجموعها لا تخرج عن نطاق «سردية قررها المصنع» والتي يشير لها البعض بعبارة مكرورة: «التاريخ يكتبه المنتصر» ويصل أحياناً إلى فرضه ورسم حدوده، متناسين أن تاريخ «اكتشاف الكهرباء» على البشرية أهم من تاريخ نابليون، وأن ولادة الطاحونة وموت الرحى كان بالنسبة لكارل ماركس، مؤشر «ثورة عالمية» وميلاد رأسمالية، ولهذا فإن «علم التاريخ الحديث» اهتم بروايات المهزومين، كما اهتم بروايات المنتصرين، ليجد أن الحقيقة التاريخية لا يمكن القفز عليها، عند كل الأطراف، رغم الاختلاف الذي يصل أحياناً إلى «اسم المعركة» فكل طرف عنده اسم خاص لها «معركة بواتييه/معركة تور/معركة بلاط الشهداء»، وتبقى الحقيقة فيما وراء سطور تلك الأسماء لمعركة واحدة، ولنتأمل مثلاً هذه الأساليب التي استخدمها «العثمانيون» ضد البدو من «أنواع التنكيل المختلفة» مثل

«سلخ الجلود، وفسخ الجسد إلى قطعتين، والخازوق أو زرع الجسد على الوتد» راجع نيقولاي إيفانوف «الفتح العثماني 1516م/1574م» والتي لم يحتفظ بها التاريخ العمومي، إلا في ثنايا العبارات، تجدها في وعيد الأمهات للصغار:

«والله لأسلخ جلدك» أو في عبارات المراهقين يشاغبون بعضهم بالتهديد في استعادة مضمرة لدلالات الخازوق.

نعود لنرتطم بسؤال ما هو التاريخ؟ فإن كان هو «الجغرافيا البشرية عبر الزمان» فلماذا لا نثق بعلم الاجتماع الحديث، أكثر من ثقتنا بعلم التاريخ في شكله الكلاسيكي، فملاحظات ابن خلدون في مقدمته أثمن بكثير من تاريخه، الذي انداح فيه كراوي أخبار كلاسيكي، فكأنما علم الاجتماع هو إفراز ديالكتيكي لجدلية العقل التاريخي مع الزمن، فيتولد منها «المجتمع بدل الناس» فمن خلال هذا العقل في أولى خطواته باتجاه «علم الاجتماع» بدأ سؤال «الحضارة/العمران/المدينة» وهذا تحول له أثره العميق جداً بين من يطرح على نفسه

«سؤال السياسة» وفي عقله «إدارة المدينة» مع ما في المدينة من تجارة واختلاف صنائع وطبائع، وبين من يطرح على نفسه «سؤال السياسة» وفي عقله ثنائية البادية في «الراعي والرعية» ... إلخ.

لقد خرجنا من علم التاريخ إلى علم الاجتماع، وقد يغضب لهذا بعض علماء التاريخ وعلماء الاجتماع، ولهم نقول: إن الجهل بتداخل العلوم في هذا الزمن يعتبر نوعا من الأمية، ولهذا نجد في أبحاث سعيد فالح الغامدي من «الحقيقة التاريخية»، بل حتى في «سيرة الوقت» لمعجب الزهراني بصفته «شاهد جيل» ما لن تجده في غيرها من كتب «التفاخر العربي» التي يسميها البعض «تاريخا»، فالتاريخ الحديث أصبح «تاريخ الإنسان» ولهذا كان كتاب «العاقل/تاريخ مختصر للنوع البشري» ليوفال نوح، من أهم الكتب التي تورث «الحكمة والتواضع والحس الإنساني» لمن يستطيعها، فمهمة القراءة في التاريخ أن «تعطينا طريقة جديدة لإدراك العالم من حولنا»، وللعاجزين عن هذا النوع من الكتب نقول: كتبكم ليست سوى تكرار وتدوير مباشر وغير مباشر، لبيت عمرو بن كلثوم:

«ملأنا البر حتى ضاق عنَّا، وظهر البحر نملؤه سفينا» إنها عربية تحمل «ظاهرة صوتية» قديمة، أعاد إنتاجها العرب ضد بعضهم طيلة التاريخ القديم، وصولاً لعبدالناصر في الخمسينات من القرن الماضي، الذي أعاد إنتاجها بنفس قومي على شكل خطب سياسية، ثم جاءت ثمانينيات القرن الماضي ليتم تكريرها من جديد على لسان الوعاظ، خطباً دينية مكتوبة «آيات الرحمن في جهاد الأفغان» فهل يمكن إعادة إنتاجها بأشكال أخرى «نبيذ قديم في كؤوس جديدة» يصفق لها الكثير، كما صفقت أجيال عبر قرون قد خلت من قبل؟.. ويتعاطونها بلا أدنى حس نقدي أو تفكير عاقل!.