تسمع قول أحدهم: «خبرضعيف أفضل من رأي حصيف» فتستعيد من ذاكرتك حكاية تراثية لأحد الخلفاء في بغداد، بعد سيطرة الإخباريين عليها عندما كان يسير في موكبه مع كبار دولته، فيصرخ أحد الجماهير رافعاً نعلاً فوق رؤوس الناس، وهو يقول: «نعل رسول الله... نعل رسول الله» فيبتعد عنه العوام بمسافة بسيطة صانعين حوله حلقة من المنبهرين بالنعل، ثم يعلو الصراخ مع الرجل «نعل رسول الله... نعل رسول الله» فيتوقف موكب الخليفة بسبب هذا الضجيج، الذي استجاب له العوام فانشغلوا بالنعل عن الموكب، ليتوقف الخليفة ثم يأمر بإحضار الرجل من بين الصفوف، ثم يأخذ منه النعل ويرفعه الخليفة فوق رأسه إكباراً وإجلالاً أمام العوام، مما أثار حنق بعض وزراء الخليفة، وعندما عادوا للقصر سأله بعضهم عن النعل، فقال الخليفة: لقد عجبتم مما فعلت وظننتم أني صدقت هذا الدجال في دعواه، ولكن كيف تريدون لي أن أفعل وقد هاج العوام برفعه وتصديقه، وإلا والله أني أعلم أنه دجال، وأنها نعل يصنعها إسكافيو بغداد كل يوم.

وعلى أثر هذه الحكاية بدأ سلوك البعض في بغداد يتغير، إما باستغلال هذا «العقل الجمعي» أو باحتقاره، ومن المحتقرين كانت حكاية أخرى لأحدهم سار مع رفيق له في أحد أزقة بغداد القديمة، وهو يحمل كيساً فيه طعام باحثاً عن مكان يأكل فيه هو وصاحبه، فقال صاحبه، لنأكله هنا في عرض الطريق، فقال له: ألا ترى الناس؟! ما الذي سيقولونه عنَّا؟ فقال صاحبه: لا أرى سوى بقر في هيئة بشر، أما سمعت ما حصل من عوام بغداد مع النعل واضطرار الخليفة إلى مجاراة الدجال، كي لا يثور العوام لو فكر الخليفة بالاستهتار والسخرية من «نعل رسول الله!!» فقال له: وما علاقة الذي حصل بالأكل في وسط الطريق، فما زلت أستحي من فعل هذا بين الناس، فقال لصاحبه: إذاً راقبني وانظر لحديثي الآن، ثم اتجه إلى طرف الطريق رافعاً صوته بالموعظة، مبتدئاً بآية وحديث، فبدأ الناس بالاجتماع حوله وما زالوا في ازدياد حتى كاد يحتجب عن صاحبه، ثم تفاجأ من يحمل الطعام بصاحبه وهو يقول للناس: وفي ختام حديثي أذكركم بعلامة تظهر في آخر الزمان، فقد روي عن الرسول الكريم أنه قال: يزداد في آخر الزمان نقص الإيمان في قلوب الناس، وعلامة ذلك ألا تصل ألسنتهم إلى أنوفهم، ثم انصرف متجهاً لصاحبه وهو يقول له: أنظر لهم فإذا بهم جميعاً يخرجون ألسنتهم يريدون أن يلمسوا بها أنوفهم، معتقدين أن تلك العلامة من الإيمان لمجرد أن هذا المتحدث نسبها للرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي ختام الشهرزاديات لن نأتي بجديد، عندما نورد حكاية الخليفة مع مستشاره عندما سأله: ما الأهم والأفضل، الحظ أم القداسة؟ فقال المستشار: القداسة يا مولاي، فأمر الخليفة رئيس حرسه بالخروج وإحضار أحد المتسولين فوراً، وعندما حضر أصدر فرماناً بأن يصير هذا المتسول بعد تنظيفه وتلبيسه وزيراً في مجلس الخليفة، فقال المستشار: هذا حظه عظيم، لكن القداسة أعظم، ثم خرج المستشار واشترى حماراً مريضاً، ثم فاجأ الناس بتكليف مجموعة من الخدم والحشم لرعاية الحمار، ونشر بينهم أن الحمار سلالة أصيلة كريمة عن جده حمار النبي شعيب وموسى، فتوافد الناس بأفضل الطعام للحمار وازدادوا بين طائف ومعتكف.

بعد هذه الحكايات الضعيفة في سندها القوية في معناها ومآلاتها، نعيد العبارة التي استفتحنا بها المقال: «خبر ضعيف أفضل من رأي حصيف» هل ما زالت معتبرة؟ والإجابة: نعم معتبرة عند كل من يبحث عن مكتسبات القداسة في الخبر الضعيف يرويه، ولن يعدم بين العوام والدهماء من يطوف به ويعتكف.