منذ القدم مارس المجتمع ذكوريته بحرمان المرأة من الكتابة والقراءة واللغة، فلو امتلكتها لاستطاعت أن تصوغ قوانين تحمي بنات جنسها

لست ناقدة سينمائيةً، لكن بعض التجارب السينمائية تجر قلمي للكتابة عنها، دامها تنطلق من نص، فهنا تكون المشتركات بيني وبين نقاد السينما والمسرح. الفيلم ( All is true) يمكن عده مكاشفات عن حياة شكسبير السرية مع نسائه، ولا نريد للقارئ أن يحلق بخياله ويحكم: بأن الكاتب الكبير ذو علاقات ونزوات، بل الأمر مختلف. الفيلم عرض عام 2018 من إخراج: كينيث برناه وتأليف: بين إيلتون، وهذا كان دقيقاً في الكشف عن حياة شكسبير في آخر عشر سنوات عاشها بريف بريطانيا، وإحالة نفسه للتقاعد من الكتابة المسرحية والإبداعية، ليعيش مع زوجته وبنتيه. وطيف ابنه الشاعر الميت جراء إصابته بالطاعون كما أخبروه. فالكاتب قدم نصاً سيرياً لأهم ما مر به شكسبير بهذه المرحلة، فالمشهد الافتتاحي كان قرب بحيرة قصره وعليه أمارات الحزن، والخيبة، بعد حرق مسرح (الجلوب) عام 1613 خلال عرض مسرحية هنري الثامن، لكن الكاميرا لم ترصد حريق المسرح، بل حريق الذات الكاتب على الصبي الشاعر وقصائده، التي كانت تطفئ حريقه. فظل شكسبير هكذا مشتعل الروح على فراق ولده حتى هذا الاحتراق وصل إلى بنته توأم الصبي، جوديث التي ظهرت فتاة حزينة وكئيبة، وكلما قرأ الأب قصائد الابن ثارت البنت عليه، وبلغ الفيلم ذروته عندما أشعلت البنت النيران بأبيها والقصائد، في ليلة معتمة وقرب موقد النار، وكان شعر الابن حاضراً بينهما، فصرخت جوديث بأن هذه القصائد لها، هي من ألفتها، وأخوها كان يكتبها، لأن القراءة والكتابة كانت حكراً للصبيان، والبنات مكانهن المطبخ، بحسب تقاليد المجتمع والكنيسة. ولم يشفع لها أنها ابنة كاتب كبير ومشهور جداً. ربما ما يجعلنا نتساءل كيف لكاتب مسرحي وشاعر مثل شكسبير أن ينساق وفق أفكار المجتمع وتقاليده، ويمنع بناته من التعليم والقراءة والكتابة؟ كيف يكتب ونساء بيته أميات؟ بل لم ينتبه أن بذرة الشعر عند بنته، إلا بعد أن أعلنت ثورتها عليه، وأحرقت الأوراق في موقد النار، وذهبت إلى غرفتها ملتحفة بالظلام الذي كتب عليها، فما كان من الأب الكاتب إلا أن يحمل فانوسه ويدخل عليها ويسألها«ـ

ــ لماذا لا تكتبين يا جوديث؟

ـــ أبي تعرف لا يمكنني الكتابة.

ـــ يمكنني أن أعلمك.

ـــ لم يعد لدي أبيات شعر. المرأة موجودة على الأرض لسبب واحد وأعرف واجبي.

»هذا الحوار الذي لم يشهده ضوء الفانوس، ما هو إلا نموذج لكثير من النساء حرمن من اللغة والكتابة، وكان الحكي حقهن الوحيد. في المقابل يكشف لنا عن قدرة المرأة الإبداعية بالشعر، والتحليق بخيالها، لكن الأدوات خذلتها وأقصد الكتابة التي كانت نصيب الرجال في تلك المراحل المظلمة. نحن نعلم أن الشعر والكتابة الإبداعية لا تورث- كما قال الجواهري- لكن مع شكسبير ربما حالة أخرى، وهذا ما سنوضحه.

إن الملك أو الحاكم الذي يفضل الشاعر أو الأديب أو المفكر على حاشيته من النواب، ملك يملك الوعي الكبير بأن الأمم تخلد بأدبها، والشعوب تتحرر بالمسرح. وهذا ما حظي به شكسبير، فكان الملك يحبه شاعراً أكثر مما هو مسرحي، فأعلن أنه سيزور الشاعر شكسبير، وما كان لهذا الأخير إلا أن يستعد لهذه الزيارة. أمام إحدى نوافذ قصره والشمس تنشر ضوءها وقف الكاتب مع زوجه، ليبلغها بزيارة الملك، فغمت واشتدت ملامحها بالأسى وعادت إلى حقيبة وفتحتها مع زوجها وعند الشعر أيضاً!! وقد ذكرته بما كتب وتنشر باسم رجل تارة، والأخرى باسم شكسبير- وكانت تلومه على موقفه السلبي، عندما كان يصمت ولا يجرؤ على الاعتراف بأن هذا شعر زوجه! بل الأشد الذي باحت به الزوجة له: أنها لا تعرف قراءة ما يكتبه زوجها من مسرحيات عظيمة، ويؤذيها سماع أصداء كل مسرحية ناجحة وهي أمية. فكيف لهذا الكاتب العالمي أن يقبل بأمية زوجته وبنته؟

منذ القدم مارس المجتمع ذكوريته العالية بحرمان المرأة من الكتابة والقراءة واللغة، فلو امتلكتها منذ القدم لاستطاعت أن تصوغ قوانين تحمي بنات جنسها من العنف المسلط عليهن. إن شكسبير لم يبق من عائلته سوى بناته، زوجته هن حاملات ورقة وصيته، فهل يحرمهن من قراءة الوصية كما حرمهن من مسرحياته؟ استطاع بهذه المدة التي بقيت من عمره أن يعلمهن الكتابة والقراءة، وقد وقفن عند نعشه يقرأن وصاياه. ربما هذا الكاتب حرر نساءه بأواخر عمره، لكن غيرهن متن ولم نعرف أو نسمع صدى لكتابتهن. أما اليوم فالمرأة شاعرة، وكاتبة، وعازفة، وفنانة، لكن وضع المرأة في مجتمعاتنا ما زال ظلامياً، فكل يوم تقتل امرأة أو تحرق، أو تنعف، ومنهن من يعشن بجهل على الرغم من تعلميهن الجامعي المتطور، فلماذا هناك حلقة وصل مفقودة بين النساء؟ بمعنى المرأة الشاعرة أو الكاتبة أو حتى المفكرة لم تؤثر كتابتها بباقي النساء؟ لماذا لا نجد قضايا النساء إلا بالسرد؟

لماذا قضايا المرأة الاجتماعية والنفسية لم تدرسها إلا القلة من الباحثات؟

هل نحن بحاجة إلى شكسبير أو نسائه الثائرات؟