هل نحتاج إلى تأصيل تاريخي يذكر القارئ بتحويل الرسول الكريم اسم (يثرب) إلى اسم (المدينة)، وعند محاولة استجلاء الروح الدستورية لهذه (المدينة) لا نجد أوضح من (وثيقة المدينة)، وما فيها من اعتراف بالتعددية والتعايش مع المختلف، وفق معطيات متقدمة بمعايير البشرية قبل ألف وأربعمائة سنة.

من هنا نبدأ لمشوار الدولة السعودية الحديثة، حيث كانت غالبية الشعب السعودي تسكن البوادي والقرى، وبدأت فكرة (التوطين للبادية) في الهجر، ثم انتقلت مسيرة التنمية - آنذاك - باتجاه أعلى، سارت فيه الدولة بخطط خمسية وبقفزات نوعية لإنشاء بنية تحتية تتجاوز بهذه الصحراء مترامية الأطراف ذاكرة (البداوة الشقية) إلى (بداوة الرفاه الاختيارية في عطلات الأسبوع). ولكن في رأيي أن أقصى ما حصل في الوجدان السعودي طيلة عقود هو تحويل المزاج (العشائري القبلي) في القرى والبوادي إلى مزاج (أهلي) في البلدات السعودية، وهنا أشير إلى المزاج الاجتماعي وليس للحالة الاقتصادية العالية التي عاشها المواطن، فلا يكفي (ابن البادية أو الريف) أن يحصل على وظيفة مرموقة في المدينة ليتحول بين يوم وليلة إلى (شخص مدني/ابن مدينة) على المستوى النفسي والثقافي، بل أقصى ما حصل مع التطور الاقتصادي والبنية التحتية والرفاه (الطفروي)، أن تحولت المدن إلى مجموعة من الأحياء/الحواري (الأهلية) التي تختص فيها كل قبيلة أو قبيلتين بحي معين من أحيائها، ولهذا لم أستطع أن أستخدم مصطلح (مجتمع مدني) على ما حصل خلال عقود التنمية رغم الطفرة، فأقصى توصيف ممكن هو نشوء (مجتمع أهلي) يمزج ما بين قيم المدينة في جانبها (الاقتصادي) فقط، مع قيم العشيرة في بقية الجوانب الأخرى التي تنغلق على نفسها مع عجزها عن فهم (التعددية والتنوع)، فهي لا تستطيع ذلك، فقيمها قيم (عشائرية/وما أنا إلا من غُزيةَ إن غوت... غويت وإن ترشد غزية أرشد)، ولا تملك (فردانية الإنسان المدني وقبوله للتعددية والتنوع)، فأقصى ما تستطيعه مع الآخر أن تتعامل معه بلونين متضادين تماماً تجمعهما الرغبة في (التحييد والإقصاء)، وذلك من خلال اعتبارين لا ثالث لهما، فالآخر في النظرة العشائرية إما (ضيف على الجميع) أو (عدو للجميع)، ثم جاءت الصحوة لتستثمر هذه الثنائية فتقلص مساحة (ضيف على الجميع)، وتزيد مساحة (عدو للجميع) بتغذية المجتمع بمفاهيم طائفية ومعايير صحوية جعلت حتى الابن يعادي أباه بسبب وجود التلفاز مثلاً، فما بالنا بقبول (الآخر المختلف).

وللذين يرون المدن الكبرى بالإضافة إلى المدن الاقتصادية التي تحت الإنشاء مجرد تجمعات صحوية/عشائرية يستطيعون أن يفرضوا فيها (أعرافهم باسم الحرام أو العيب)، فعليهم الرجوع بالتاريخ إلى الوراء، حيث كان القمل غذاؤه فروة رؤوسهم ودثاره ملابسهم، وعندما ينهكهم الجوع والمرض والجهل سيدركون معنى (المجتمع المدني) وأهميته، ومدى تخلف بعض ــــ بل الكثير ــــ من عاداتهم وتقاليدهم التي تحرم الأخت من الإرث بحجة ضياع الحلال، وتحرمها من زوج يحبها وتحبه بحجة عدم تكافؤ النسب وأخوها متزوج من أجنبية بلا حسب ولا نسب!!

هذا على المستوى العشائري الخاص، أما على مستوى (اللحمة الوطنية) فقد صنعت الصحوة أنساق (كراهية وإقصاء صلبة)، تضطر مواطناً ـــــ في سبيل لقمة العيش ــــ أن يحمل زوجته من (محافظته التي يسمع أنها مكروهة) عند اقتراب موعد ولادتها إلى مستشفى في منطقة أخرى (يسمع أنها محبوبة)، لعل (اسم مكان الميلاد في هذه المنطقة) عندما يكتب في هوية ولده يشفع له في الحصول على فرصة أفضل في سباق (الوظائف المرموقة) إذا كبر، بل وصل الوسواس القهري لدى البعض لأن يغير اسم جده أو يضيف له (أل التعريف) في الهوية الوطنية على غير عادة أهل منطقته، محاكاة لمنطقة أخرى لعل في تشابه الألقاب (فرصة وظيفية أكبر) كما يتوهم!

فهل انكشفت آثار التلاعب بالرأسمال الرمزي لكلمة (وطن ومواطن) من خلال الصحويين وأشباههم من الصارخين بكلمة (عيب أو حرام في وجه وطن متنوع الأعراق والأعراف والعادات والمذاهب)، ليصطنعوا معايير تعطي وهم (مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية).. لا تصدقوهم أبداً، إنهم يبكون ضياع مكاسبهم الاعتبارية كما بكى أصحاب (مسجد الضرار) مكاسبهم عندما هدمه الرسول عليهم، ولا يعني هذا أن نقيس عصراً كان فيه نبي هذه الأمة يتجول في أرجاء (المدينة) وفيها أهل الكتاب رجالا ونساء وأطفالا يزورهم ويزورونه رغم اختلاف العادة والدين، فمحال أن يقيس أحدٌ نفسه بنبي يأتيه الوحي من السماء، رغم أن مدلسي الصحوة (فعلوها) على رؤوسنا سنين عددا بدعاوى (التوقيع عن رب العالمين، ورؤاهم الصالحة في المنام!!) مما يخجل منه العقل الرشيد، وتصدقه الدهماء.

هذه التوطئة ليفهم الجيل الشاب معنى (رؤية 2030) التي تريد نقل المواطن السعودي من إمكانات (المجتمع الأهلي) التي رآها أجدادنا أفضل من إمكاناتهم البدائية، إلى أعلى مستويات (المجتمع المدني) وما فيها من تنوع وتعددية واحترام لفردانية الشخص، حيث يتم تقييمه بما حازه من (خلق كريم وعلم نافع) مصداقاً لما ورد في الأثر: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

فرغم ما حققته المدن السعودية من قفزات تنموية في البنية التحتية على مستوى الطرق والمباني بتنوعاتها الخدمية، إلا أن الدولة تقوم بوثبة حضارية تتجه بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية إلى ما هو أعمق في وجدان (المواطن السعودي) وهو نقلة من مرحلة (المجتمع الأهلي) إلى مرحلة (المجتمع المدني)، ولمن يسأل: لماذا لم يتم الانتقال إلى المجتمع المدني منذ أيام الطفرة؟، نقول إن في هذا مزايدة على (بنية المجتمع السعودي) الذي كانت فيه نسب الأمية عالية جداً عند نشأة الدولة، وبعد ذلك هناك إشكال تنموي لم يلتفت له شاه إيران عندما تجاهل (أحياء العشوائيات) على أطراف العاصمة طهران دون حلول جذرية، وكل هذا يدل على عمق وعي قيادتنا السياسية وإدراكها لمتطلبات كل مرحلة دون (حرق أعمى للمراحل) وكان من نصيب ولي العهد حصاد (التراكم الكمي) ليستخرج منه هذا (التغير النوعي) المذهل، فكأنما جاء بنهضة مدنية نكاد نقول باعتزاز وفخر شديدين:

إنها النهضة الوحيدة التي يقودها (ولي عهد وابن ملك) بهذه القوة والسرعة والكفاءة منذ عقود إلى مزيد من التمدن والازدهار مع الحزم والنزاهة.