قبل ستة شهور فقط كان احتمال استخدام السلاح النووي بعيداً عن التصوّر. لم يعد الآن متخيلاً. قد يحدث قريباً. فالرئيس الروسي هدد بلا مواربة، مؤكداً أن «لا يخادع» وفي ترجمة أخرى «لا يمزح». والأرجح أنه قد يفعل خلال الشتاء أو بعده مباشرة لزعزعة الجيش الاوكراني ووقف أي تقدم له، أو استباقاً لاستعادة العمليات العسكرية زخمها. لن يكون قراراً سهلاً، لكن فلاديمير بوتين بنى للفعل النووي منطقاً خاصاً، إذ يستعد لضمّ أربع مناطق أوكرانية احتلتها قواته كليّاً أو جزئياً، ولم ينتهِ القتال فيها ولم تؤمَّن بعد. وبنهاية ما تسمّى «الاستفتاءات»، معروفة النتائج مسبقاً، لن يكتفي الكرملين بإعلان أن تلك المناطق صارت «أراضي روسية»، بل ينذر دول الغرب، مسبقاً أيضاً، بأن «تغييراً جيو-سياسياً يحصل للتو، بحسب الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف (نائب رئيس مجلس الأمن الروسي حالياً) الذي رمى بدوره تذكيراً بأن لدى روسيا أسلحة نووية لحماية أمنها وأراضيها.

لا يختلف هذا السيناريو عما تجترحه الأنظمة الشمولية عادة من ذرائع وأدوات، ومنها مثلاً قول بوتين، إن دول الغرب تسعى إلى»تدمير روسيا«و»ابتزازها نووياً«. هناك دول عديدة مناهضة للحرب اتهمت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي باستفزاز روسيا وتحريضها على غزو أوكرانيا، إلا أن»تدمير روسيا«شيء آخر لا يشبهه سوى ادّعاءات متكرّرة بـ»معاداة السامية«و»السعي إلى تدمير إسرائيل«كلما تعرضت ممارساتها العدوانية لانتقادات. بُني الغزو الروسي على مبالغات وحجج مضخّمة قد يكون لها أساس لكنها لا تستدعي تحريك الجيوش والترسانات، بل يعرف بوتين أنه لم يفاوض أمريكا و»الناتو«من أجل الأوكرانيين ذوي الأصول الروسية، ولا بهدف التوصّل الى تسويات، وإنما لتشكيل ملف مبرّرات الحرب. لكنه لم يعد يأبه لأي جدل أو اعتبارات، إذ تخطّاها الوقت، كان المهم عنده أن يتمكّن خطابه الأخير من شدّ العصب في الداخل لتمرير»التعبئة الجزئية«والتصعيد النووي، والأهم تنفيذ الإخراج السياسي المعدّ لتقديم الهزيمة في شرق أوكرانيا على أنها مقدمة للنصر الآتي.

كل الجيوش تعرف أن استدعاء الاحتياط، ولو جزئياً، مقياس لحجم ضرر حاصل، خصوصاً إذا كانت مؤشرات المواجهة واضحة بسلبيتها، وأنه يعني تلقائياً أن مجريات الهجوم مقابل المقاومة لا تسير على النحو المتوقع، حتى لو كانت موازين القوى غير متكافئة مبدئياً. لم يغب ذلك عن تقويمات العواصم الغربية للتعبئة الروسية، ورأت فيها شعوراً بـ»فشل«أو»يأس«أو»اقراراً بالضعف«و»خطأ في الحسابات«، واستخلصت أن السلاح الغربي المتطوّر فعل فعله في أيدي الأوكرانيين الذين لديهم دوافع قوية للدفاع عن بلادهم وتحرير أراضيهم المحتلة. هنا يبرز فارق أساسي مع القوات الروسية التي أعطت باكراً إشارات إلى ضعف حوافزها المعنوية، ولن يختلف ذلك مع القوات الجديدة التي ستُضخّ في الجبهات، ففي النهاية هذه ليست حرباً للدفاع عن الوطن الروسي. هل تغيّر الاستفتاءات شيئاً في هذا الواقع؟ لا. لكن طبيعة الأسلحة والضربات قد تغيّر مسار الحرب، خصوصاً إذا زاد الاعتماد الروسي على الأسلحة النووية التكتيكية.

الاتجاه السائد غربياً هو إلى عدم التقليل من تهديدات بوتين وعدم الارتهاب منها، ومواصلة العمل وفقاً لقاعدة»منع بوتين من الانتصار ومن تحقيق أهدافه«. ثمة مَن يذكر بأن ضم شبه جزيرة القرم في 2014 قُوبل بعقوبات غربية ما لبثت روسيا أن استوعبتها، لكن ضعف الرد الغربي وعدم استجابة دعوات بوتين إلى عقد صفقة تسووية تشمل أوكرانيا وسورية معاً كانا من العناصر المحفّزة التي شجّعته على التخطيط لحربه الراهنة. ومنذ بدايتها كأزمة عنوانها احتمال انضمام أوكرانيا الى حلف الأطلسي، كان في الإمكان حلّها بالتفاوض، لأن الدول الغربية لا ترغب في مواجهة تتسبّب باختلالات في اقتصاداتها واستقرارها. لم يُشعل بوتين الحرب فحسب، بل تولّى إدارة أزمتها منذ اللحظة الأولى، ولا يزال.

كان التقدّم الاوكراني في الشرق تطوّراً معاكساً لتقديراته، وحتى الانتقادات التي سمعها في قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي بالأخص من الصين والهند تجاوزت توقعاته. صحيح أن لديه تفاهمات متفاوتة المضمون والصلابة مع هاتين الدولتين المجاورتين، إلا أن قلقهما يتزايد من الاتجاه الذي تتخذه حربه.

هذه الاعتبارات لم تدفع بوتين إلى وقف إطلاق النار وطلب التفاوض، بل إلى التصعيد بثلاثية: التهديد النووي، إرسال مزيد من القوات، وضمّ الجمهوريتين المنفصلتين دونيتسك ولوغانسك، إضافة إلى خيرسون وزابوريجيا غير المشمولتين بالحدود الإدارية لشرق أوكرانيا. كان تصميم أمريكا ودول أوروبا على مساعدة كييف بالمال والسلاح مشروطاً بمنعها من ضرب الأراضي الروسية في حدودها المعترف بها، وقد التزمته. لكن بوتين يريد أن يشمل الوضع ذاته المناطق الأربع باعتبارها»أراضي روسية«، فهل يستجيب التحالف الغربي لئلا يتسبّب بتصعيد نووي؟

هذه الحرب بدأت بعدوانٍ على أوكرانيا ويخوضها الأوكرانيون أساساً، ومن حقّهم أن يعملوا على تحرير أراضيهم المحتلة. لكن هذا المنطق لا يستقيم في عرف الرئيس الروسي، إذ أنه هدف إلى»إلغاء حقّ أوكرانيا في الوجود كدولة«(جو بايدن) ولم يعد يعترف بها كـ»دولة مستقلّة وذات سيادة«(ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لـ»الناتو«). ويوضح الأخير أن خيار التحالف الغربي لا يزال»إثبات أن بوتين لن ينتصر في ساحة المعركة«.

يعني ذلك، موقتاً، أن الغرب بات مجبراً على التهيّؤ لمواجهة نووية مراهناً على أن بوتين لن ينفّذ تهديده أو يكتفي بأسلحة مزوّدة رؤوساً نووية تكتيكية وفقاً لمقتضيات القتال. والأكيد أن الغرب لن يعترف بالاستفتاءات ونتائجها، كما فعل بالنسبة إلى شبه جزيرة القرم، وسيواصل دعم كييف لكنه قد لا يرتقي بنوعية الأسلحة لئلا يقرّر بوتين توسيع نطاق الحرب. وبعدما قال وزير دفاعه سيرغي شويغو، إن روسيا»تحارب الغرب«في أوكرانيا، فإن موسكو تتوقّع من هذا»العدو«أن سهّل لها»النصر«فيتنحّى عن الصراع أو يتخلّى عن أوكرانيا ويدفعها إلى الاستسلام. لكن هذه ليست واردة، فكما أن روسيا جعلت من أوكرانيا جبهة غربية لمواجهة تمدد»الناتو»، كذلك جعل الأخير من أوكرانيا جبهة شرقية لصدّ الهجمات الروسية على النظام الدولي القائم. مع ذلك، لا بدّ من التفاوض لإنهاء أو وقفها، لكن كيف يبدأ هذا التفاوض ومن يسهّله؟

الدعوة الصينية إلى الحوار ملتبسة لأنها تراعي مطامع روسيا، والفكرة الفرنسية عن التفاوض لا تتطابق مع طموحات بوتين الباحث عن استسلام أمريكي.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي