في قصة واقعية تقول مديرة مدرسة أنه حضرت إليها إحدى المعلمات، وكانت تشتكي من تعامل أحد الطلاب في الصف الأول الابتدائي، إذ تقول أنه يقترب من معلمته ومن زملائه بشكل غريب إذ لا يتكلم إلا وهو ملصق وجهه بمن يريد أن يحادثه، ولابد أن يمسك بيد الطرف الآخر طوال حديثه معه، وحضرت تلك المديرة للفصل واستدعت الطالب، وما إن حضر إليها حتى مارس معها الأسلوب نفسه، شعرت بخجل وكأنها تريد أن تقول له «عيب» من وجهة نظرها.

وما إن تعبت المديرة والمعلمة من أسلوب هذا الطالب الغريب غير المؤدب، حتى استدعت ولي أمره، وإذا بولي الأمر يحضر مع والدة الطفل التي كانت خائفة من الموقف هي الأخرى، وما إن حضر الأبوان حتى نادت على الطفل كي تنبهم على هذا السلوك الشاذ، وما إن حضر الطفل حتى ألصق خده في كف أبيه، وبدأ وكأنه يتمتم لأبيه ولمس وجه والده بالأسلوب نفسه الذي يمارسه مع معلمته وزملائه، وقبل أن تنفجر المديرة بقولها «هذا هو قدامكم قليل الأدب»، حتى أمسكت بلسانها ثوان معدودة لتكتشف أن الأب أعمى، وأن طريقة تواصل ذلك الطفل مع أبيه هي باللمس، وأن والده يمسك به طوال حديثه معه وهو يلمس وجهه كي يراه ببصيرة المشاعر وليس ببصر العين.

ما أريد قوله أن هذا المشهد يتكرر في حياتنا يوميًا، وقد نكون عميانًا عنه، فكم من مشهد كنا نعتقد بخطئه متيقنين 100%، ولم نر ما خلف المشهد، كم مشهد حكمنا عليه بقلة الأدب أو عدم الاحترام ونحن لا نرى ما خلف الكواليس.

وهذا المشهد أتذكره جيدًا حينما كنت في رحلة بين دلهي وكيرلا في الهند، وإذا بي قد وجدت نفسي مستفزًا من أسلوب الطفل الذي يجلس خلفي بالمقعد، كونه يحرك الطاولة التي في ظهر مقعدي وأضجرني وأمه تجلس بجواره ولم تحرك ساكنًا، وما إن «وصلت حدي» حتى التفت لتلك الأم وبدلًا من أن أصرخ عليها، أخذت كاميرتي واستأذنتها أن أصور طفلها ذلك، كي تكون مدخلًا لأبين لها ما يضايقني، وما إن التقطت لذلك الطفل الجميل والمزعج صورة، حتى عرضتها على شاشة الكاميرا والتفت إليه لأريه صورتها الجميلة لعله يهدأ، وما إن بدأ يتلمس الكاميرا دون أن يأبه بالصورة، فإذا بوالدته تشير إلى عينيها وتقول بلكنة هندية blind أي أن طفلها أعمى، بل وأظهرت لي سوارًا يبين أنه يعاني من مرض التوحد، وبعد أن فهمت التوحد جزئيًا، أحسست وكأنه لا ظهر لي، فلم أعد أشعر بهز ذلك الطفل لمقعدي، بمجرد أن شعرت بموقف الطفل نفسه فما بالك بأمه. وهذا هو الحال معنا يوميًا، فلو نشعر بما يعانيه كل من يقابلنا ونتعامل معه لما حملنا في قلوبنا عليه، حتى وإن وصل الأمر للضرب أو الإهانة، فكلما تعمق الإنسان في مشاعر من حوله وما يقف خلفها من معاناة او صدمات أوصلته إلى هذا الحال، فسيجد نفسه مستقرًا في التعامل، شاعرًا أن الكل على حق، فإن بدأنا نرى ما حولنا بعدسة أكبر فستكون أغلب الرؤية، كما حدث بين (الأب الأعمى والمديرة المبصرة).