بدأب الملسوعين بجمرة الإبداع الحقيقي، وشغف المرتقين سلالم الكتابة بحرفية وتؤدة، يواصل محمد علي علوان (أحد أهم أيقونات السرد والقصة الحديثة في السعودية) ألقه الكتابي بالسنتين الأخيرتين، مقدما لوحة جديدة في مساره الإبداعي المتراكم - رؤية وخبرات كتابية / فنية - منذ بزوغه نهايات الستينيات الميلادية، والذي أسفر عن أربع مجموعات قصصية فقط على مدى 40 عاما، استهلها بـ(الخبز والصمت) عام 1977، أعقبها بـ (الحكاية تبدأ هكذا) 1982. ثم استوى الصمت خبزا برسم النضوج، وماجت الحكاية، راسما مسافة من تعب ورقص( عرضة) ريف ، ومطارحات غزل وغيم وحقول مكتظة بالبهجة، وأشواق يؤججها انعتاق من ربقة ( العمل / الوظيفة) ، و التوق لفراغات من الركض وراء الخبز في دروب الحياة.. دروب فياضة بالغناء، غناء راح يسكبه علوان مرة عقب الفراع والتحرر من قيود الالتزام الوظيفي، ويصبه مرات تالية متدفقا، إثر اندماجه بمتعة التخلص من قيود ذلك الالتزام.

أقـدار أخرى

(كان جـدي في كل حين يقول لـوالـدي: لا تفرط في حقلك الصغير فـهـو الـذي يدر عليـك ذهبا في كل الفصـول، ولا تبع وطنـك لكائن من كان، لا تبـع بقرتـك بـأي ثمـن يعرض عليك حتى ولو كان مغريا، ولا تبـع ثـورك الـذي يساعدك في الحرث، حبة قمح تدخل بيتـك تضيف لـه المحبـة وتضيء جوانبه المعتمة، كل حبـة قـمـح تعنـي حيـاة ممتـدة لأطفالكـم، القـريـة الصغيرة هي وطـن باذخ لا يغرس إلا في نفوس من يحبونه ويقومون بحمايته..)، بهذه السطور التي تحفر عميقا في ماهية الأوطان، والاعتداد بالأرض / الحقل، يلج علوان عوالم سردية (المرتزقة)، ملوحا برموز ومعاني ودلالات شاخصة فنا ورؤية بتقنية (الراوي العليم)، كاشفا بلسان شخصية العمل المحورية: (حين حاصرني الجـوع والخـوف في وطني، ذهبت للدعـاء، لكن ذلك لم يحدث شيئا، صليت وكنت صادقـا وطـاهـرا، لكـن ذلـك لم يغير شيئا ذا بـال، لم أنـم منذ مدة طويلـة التعـب ينهكنـي ويأخذ مني كل مأخـذ، ظللت أرقـب وجـه زوجتـي التـي يغطيها الحـزن، تحتضن أطفالنا الجياع، أنظر إلى والدتي والتـي فـقـدت حبيبهـا ودخلت في صمـت يـقتـات عـلى مشاعرها، ولا تملـك سـوى استعادة الذكريات الدفينة في خاطرهـا، لم نكـن نـمـلـك شيئا، وحتى منزلنـا الخـاوي والمتهالك بالإيجار، ما هـذا الألم والـذي ينخـر أجسادنا وأحلامنا إلا إذا كان ذلـك قـدراً مكتوباً على جبيني، لكـن ما ذنب والـدتي، زوجتي وأطفـالي! ألم تكتـب لهـم أقـدار أخرى).

هزات رأس متتالية

تلك (الأقدار الأخرى) هي التي تقود السارد / بطل العمل لتوقعه في فخ (الارتزاق) المأزق الوجودي العريض، الذي شكل ملامح أربعة عقود، أسلمت قياد شبان وأحلام وسقوف لصناع الارتزاق، (بعـد أن فـقـدت عيناي بوصلـة النـوم وفكرة الأحـلام التـي تهـدئ الخاطر وتبعث به جدوى الحيـاة وانتظـار أمل لا يغـرب فجأة، لم أستطع حين خرجت من منزلي تحديـد وجـهـة بعينها للحصـول عـلى عمل يقيني من بسط يدي لمن عرفت ومـن لا أعرف، رغـم هـذه المتاجر الزاهية المتكدسة بالبضائع والابتسامات الكاذبة، رغـم ذلـك كـانـت الأبواب مغلقة في وجهي).

يظهر العمل أحد هؤلاء الصناع، الذين يصفهم السارد محددا ملامحهم (الواضح أنه غريب عن بلدتنا، كان حسـن الهيئـة وسيم الوجه، ويرتاح لـه القلب، بعـد تردد التفت بكليته بعد أن ارتشـف الشاي، بادر بسؤالي: مـاذا تعمل؟ قلت له: لا شيء، ابتسـم بشكل يوحـي ولـو مـن بـعـيـد بـأنـه وجـد مبتغاه، هز رأسـه مـرات متتالية بعدها سألني عـن أحـوالي المعيشية، أجبت بتسرع مكشوف (زفت ولله الحمد) ندمت ساعتها وشعرت بضعفي واحتياجي).

لقـاءات بلا نسـوة

يكثف علوان بقدرات فنية أنضجتها خبرات السنين، رمزية عميقة الدلالة في النص، وهو يمهد لكشف آلية اصطياد الشبان اليائسين، ليضحوا مرتزقة حقيقين، وضحايا لـ (حاملي السبحة) حين يواصل السارد تداعياته: (في اليوم التالي فتـح الصندوق، اختار سبحة غامقة اللون وحباتها تصـل إلى التسعين، تطيـب ولبس قناع المحاضر الواعظ، بـدون أدنـى شـك يملك ذكاء وقدرة على التنظير، ومن ثـم التأثير على من يمتلكون ثقافـة سطحية، ويسهل مهمتـه في الوصول إلى مبتغاه. كـانـت حبـات المسبحة تتعاقب بين أصابعـه التي يتابعهـا الحضور وكأنهـا تـرسـم مـع صوته الأجـش إيقاعـا يجلب لهم الدهشة. يخرجـون مـن هـذا اللقـاء. مبهورين، هذا اللقـاء الـذي لا تحضره (النسـوة) كانت زوجتـه تضحك لهذه اللعبـة).

المشـوه في داخلـه

تتصاعد تفاصيل الإنزواء في دراما الارتزاق، ويزداد السارد بما لايخلو من طرح مباشر، أوجبته مهمة توضيح للآليات المتبعة في هذا المسار: (بعـد أن تسلل قبل خمس سنوات إلى جمعيـة (البر) يخرج منها الآن ورائحـة دهـن العـود الفاخر تفـوح من شعرات ذقنه الكثة وابتسامة صفراء تصـافـح وجـوه مناصريه، وخواطر هـم تطرح سؤالا فجاً: متى نصبح على شاكلته؟

اللصوص ليس لهم ملامح فهي دفينة في دواخلهم).

وهنا لم يكن أمام علوان إلا تحييد تلك الدلالات الرمزية، ليجلي المشهد بما تقتضيه المكاشفة وشفافية الموقف:

(..وهكـذا اللعبـة مستمرة والـديـن غطاء مناسـب وهو الـذي تفضله لعبـة السياسـة التـي تلبس كل يـومـا قناعا جديدا ومتى قاربت الأقنعة على احتراقهـا تـم استبدالها بأقنعة جديدة وطازجة).

ثم يعيد الخرزة لرمزية جدية عبر حديث (يرويه رجل من بلاد العرعر) قائلا: (نـحـن جميعـا بـعـد تحولـنـا مـن أنـاس أسـوياء لهـا أمنياتهـا ولأبنائهـا أحلامهـم ونترقب المستقبل، نعـم تحولنا إلى حبـات مسبحة يحركها هـذا المشـوه في داخلـه ويشـوهنا معـه، مازلت أتذكـر تـلـك اللحظات والتـي كـانـت تمثـل آنـذاك حـلـم الخـروج لعالم أفضـل وفرصـة أجمـل لخيارات متعـددة).

الإفاقة والإنسحاب

مع تصاعد وتيرة السرد، وصولا لما يمكن تسميته ( التوتر الدرامي ) والتبئير، تزداد المكاشفة سطوعا، ويتلمس القارئ جوهر ( المرتزقة) بكل علاماتها الدالة ( السيميائية):

*كان يرتدي (مشلحا) بني اللون ورائحة (دهن العـود) تملأ المكان.

*كنت مـن ضمن المئات التي يكتظ بهم (المخيم الدعوي).

*كل شيء يثير الرعـب وطرح الأسئلة والتي تمور في ذهني، ومنها تساؤلات عديدة في الربط بين المراكز الصيفية والمكاتب التعاونيـة للدعوة والإرشاد.

*المخيمات الدعويـة التـي كـانـت بمثابـة الـفـرز الـذي يدعو لحمل السلاح والذهاب لأرض الجهـاد.

وعندما يفيق بطل العمل من غفلته، وكل ما حوله من أحلام غدا خرابا وأوهاما، لم يعد بمقدروه سوى التحسر، مجاهرا بالكراهية (حتى رائحـة الـعـود والبخـور كرهتهـا لأنها تذكرني بهم ونواياهـم، بـدأت خطـة الانسحاب والتي خططت لها منذ زمن).

ضم العمل الصادر عن ( تشكيل ) إضافة إلى المرتزقة، نصوص ( يا أيها النمل، المجنة، جبل حرفة).

محمد علي علوان

*قاص وكاتب سعودي

*ولد بأبها 1951

*بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة الملك سعود

*عمل في وزارة الإعلام منذ تخرجه في 1394

*أصبح وكيلا مساعدا لشؤون الإعلام الداخلي من يوليو 2005

*أشرف على الصفحات الثقافية في مجلة «اليمامة»و صحيفة «الرياض»

* من مجموعاته القصصية:

«الخبز والصمت» 1977

«الحكاية تبدأ هكذا» 1983

«دامسة» 1998

«هاتف» 2014

«طائر العِشا» 2020

" تهلل" نوفيلا 2021