‏عبدالله بن سعيد أبو ملحه الذي رحل عن دنيانا كان مدرسة قائمة بذاتها، تعلمت منه الكثير، وتأثرت في مسار حياتي بكثير مما تعلمته منه رحل بجسده (تغمده الله بواسع رحمته) مثلما يرحل كل حي في هذه الدنيا، لأن البقاء والخلود لله وحده سبحانه وتعالى، ولكنه سيظل حيّاً وباقياً فيها ما بقيت القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة.

كان معلماً من طراز فريد، وهبه الله الهيبة ولكنه يأخذ الناس باللين والحسنى.

‏كان يتمتع بعقل منفتح يجيد التقاط ما تلقيه التجارب بين يديه من أشخاص ووقائع وحوادث فينظمها فكره بطريقة منسقة مستخلصاً منها العبر والدروس والحكمة.

‏وكان – كما يمكنك أن تتوقع – يتمتع بروح مرحه، ترجع إلى ذكائه الفطري الذي يكشف له التناقضات في سلوك البشر من بعض المواقف / المحكات، وبما أنه سمح النفس لا يحمل الغل والضغينة فتجده يرسل الدعابة الساخرة المحببة إلى النفس والتي تستدعي الضحك المتسامح بدلاً من القول الغليظ.

‏ولعل هذا ما ساعده على النجاح العملي والاجتماعي في الحياة.

‏ورغم فارق السن بين الراحل وبيني كانت بيننا صداقة ومحبة أعتز بها كثيراً .

‏هل قلت إنني تعلمت منه ؟

‏نعم. فقد كان "عبدالله بن سعيد أبو ملحه" مدرسة قائمة بذاتها ، لقد اختزل كماً هائلاً من التجارب الثرة ، واستطاع أن يوظفها في تجربته الحياتية التي كانت أشبه بالملحمة الأسطورية، وكان في نيتي نكتب هو وأنا قصة هذه التجربة، إلا أن الحق أغلق هذا الكتاب قبل أن نخط سطراً فيه.

‏وأعتقد أن لديه ما يستحق أن يقوله ، لأنه كان شاهداً أهم مراحل تطور منطقة عسير الحديثة، وكان قريباً بما يكفي من ولاة الأمر وصناع القرار، بالقدر الذي يجعل لشهادته قيمة ومصداقية ..

‏كان كتاب تاريخ حي وناطق، بذاكرة قوية طبعت صورة كل المشاهد التي عايشها عن قرب، ولعل هذا يشكل بحد ذاته خسارة بفقده، فبموته ضاعت وانطفأت خلية من ذاكرة تاريخ الوطن المعاصر.

‏كان كتاباً مفتوحاً ، ظاهره مثل باطنه واضح بلا رتوش أو تزويق أو تزييف.

‏والآن طوت إرادة الله صفحات هذا الكتاب على الأرض لتفتح الكتاب الآخر في السماء، فنسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لعبده "عبدالله بن سعيد أبو ملحه " وأن يشمله برحمته التي وسعت كل شيء، وأن يضاعف له حسناته ويتجاوز عن سيئاته، وأن يسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب.