استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، والبوصلة توجد في السفن والطائرات كما توجد في تطبيق الجوال.. فهل البوصلة في ذاتها يمكن أن تكون وفق الفصام الفقهي شرطًا من شروط الصلاة؟ سأحاول تقمص نسق الفصام الفقهي وأجيب على السؤال: نعم هذه الأدوات والمخترعات سخرها الله لنا ونحن نسخرها في خدمة ديننا، وعليه فالبوصلة في ذاتها شرط من شروط صحة الصلاة (فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) تكبير.. الله أكبر.

وسيعتبر ذلك من فتح أبواب الاجتهاد والتجديد التي لم يسبقه أحد إليها منذ عهد السلف الصالح، بينما الأمر لا يستحق كل هذا (التلفيق) الذي يسمونه (تأصيل) إن كان في مصلحتهم، ويسمونه (بدعة) إن أرادوا (التفريق) لتعارضه مع مصالحهم، فالبوصلة إن لم تتضارب مع أي مصلحة من مصالحهم استدمجوها ضمن سياقهم الديني، وإن عارضت مصلحة من مصالحهم (الخاصة) قاوموها بأنها بدعة لم يعرفها السلف الصالح، ولهذا لن ننسى الإصرار على تحديد دخول شهر رمضان من خلال العين المجردة حتى ولو ثبت الخطأ علميًا، متجاهلين (علم الفلك وتلسكوباته)، بينما يأخذون بخبرات علماء الفلك في تحديد أوقات الإمساك والفطر للصائم، بالإضافة إلى أوقات الصلوات الخمس بالساعة والدقيقة لعام لم يبدأ بعد في التقويم السنوي؛ لأنه يسهل عليهم ضبط الناس في ترتيب أوقاتهم دون خلاف بينهم للحصول على مكافأة (مؤذن وإمام مسجد)؟!.

أما بعض عوامهم فيحدثك عن (الأرض المسطحة) تسأله عن الأدلة فتراه يمزج بين براهينه التي تتكئ على (الحواس الخمس) وما بين (القرآن الكريم)، ثم تتفاجأ أكثر بحديثه عن الخرائط القديمة للأرض بصفتها مسطحة، وأنها أصدق من الخرائط الحديثة ثم يستغرق في الحديث فيتهم وكالة ناسا بالتزييف حينًا وحينًا آخر ينسب لها ما لم تقله عن إنشقاق القمر، تظن أن المسألة فردية وخاصة به لتتفاجأ بالكم الهائل لمقاطع اليوتيوب والمنشورات التي تقول أن (الأرض مسطحة وليست كروية)، فتفهم لماذا رفضت إحدى النساء المثقفات مناظرة (متطرف ديني)، وعندما سألوها: هل هذا نوع من الهرب؟ فأجابت: لا ليس هربًا ولكني لا أضيع وقتي في مجادلة من يعتقد بوجود (أطباق طائرة) أو يعتقد بأن (الأرض مسطحة) أو يعتقد بأن (فهمه الديني) هو الحق المطلق.

المخيف والمقلق أن يتحول هذا بين الناس إلى نقاش باعتباره (خلافًا بين فكرتين متعارضتين)، فهل هذا فعلاً صحيح؟ هل ما يصلنا من مراكز الفضاء في أمريكا أو بريطانيا وروسيا وصولاً إلى (معاهدة الفضاء الخارجي عام 1967 التي انضم إليها أكثر من تسعين دولة)، بالإضافة إلى (الهيئة السعودية للفضاء) كل هذا مجرد رأي فيه أوهام وخداع ومؤامرة يقابله رأي آخر يستند على (الحواس الخمس بالمعنى الطفولي) مع بضع (آيات قرآنية)؟ أم أن هذا من أعراض (العولمة الثقافوية) التي نراها في كل العالم، والفرق أن البنيان العلمي في الدول المتقدمة راسخ جدًا، ويستطيع حماية نفسه من الاختراق، بينما البنيان العلمي في العالم العربي ليس بنفس المستوى، فتجد مثلاً من يضغط على وزارة الصحة باتجاه المطالبة بعيادات داخل المستشفيات للرقاة ليصبحوا معينين رسميين في المستشفيات (راجع صحيفة الوطن ليوم الأحد 10 فبراير 2013)، وتجد الثراء السريع لشخص يفتح قناة فضائية يسميها (الحقيقة) ليتاجر تحت اسم (مركز فلان للأعشاب الطبيعية)، باعتباره مركزًا عالميًا تمكن من معالجة السرطان، يمزج فيه كما ينسب لنفسه (العقيدة والجانب الروحي مع آخر ما توصل له العلم من أبحاث)، ثم فجأة ينتهي الزخم لهذا المركز عام 2017 مع ظهور إشكاليات قانونية وتهم بالنصب والاحتيال.

الإشكال هنا ليس خاصًا بالعرب بل سبق بالقول عن (الأرض المسطحة) في الغرب بعض الأصوليين المسيحيين، مستشهدين بما ورد عن الأرض لدى الإكليروس قبل كوبرنيكوس، وعلى مستوى الروحانيات ظهر (أوشو) في (أمريكا)، وتم عمل برنامج وثائقي عن سيرة هذا (الدجال)، وما انتهى إليه بعض أتباعه من جرائم اقتضت سجنهم، ورغم ذلك ها هو ينتشر باعتباره ظاهرة ثانوية من ظواهر العولمة عبر وسائل التواصل الحديثة، مما يجعل الإنسان المتأمل يراها وفق منظور (الموضة الثقافوية)، التي تذكرك بالروحانية (مريم نور) بطلة المشهد الميلودرامي قبل سنوات، وها هم سلالتها من أبطال (الميلودراما) في (مواعظ الكارما الهندية) ينتشرون كالنار في الهشيم.

وهذا المقال لن ينتهي من استعراض أو تحليل هذه (الموضات الثقافوية) فهي في -وجهة نظري- ظواهر طبيعية موجودة في الغرب والشرق بحكم تصاعد التقنية والكشوفات العلمية (بتقدم كبير) لا يتناسب مع (التواضع الشديد) لمستوى نضج البشرية تجاه إرثها الروحي، فما يسمى (الإعجاز العلمي في القرآن) ليس إلا محاكاة لما يسمى (الإعجاز العلمي في الكتاب المقدس) لدى المسيحيين وحتى اليهود، كمحاولة من (رجل الدين) للحفاظ على ما ورثه من عصور الوثنية القديمة بصفته (الطبيب والفلكي وخبير المطر والفيضانات والعارف باسترضاء الآلهة وطرد الأرواح الشريرة)، والمفارق أن الإمام أبي إسحاق الشاطبي (توفي سنة 790هـ).

أوضح هذا الإشكال في كتابه الموافقات عندما قال: (إن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين: من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف...).

ومن مفارقات (الكوميديا السوداء الدينية) عند تفكيك خطاب بعض (المطاوعة) أنهم تحولوا من خلال خطابهم الفصامي بين (التلفيق والتفريق) إلى (نصف علمانيين)، فكم من خطيب تحدث عن صيام رمضان، ثم مزج (الصيام كعبادة) وفق منطق الدين بفوائد (الصيام كصحة) وفق منطق العلم، ليتحول الأمر (التعبدي) بصوم رمضان إلى مزيج من (مكاسب العبادة في الآخرة ومكاسب الكيتو في الدنيا)؛ أي أن الخطيب يمرر مفاهيم (علمانية) عن فوائد (الصيام) علميًا، ليمزجها بأمر الله في (فريضة الصيام)، وهنا يتحول الصيام عبر خطابهم (النصف علماني) من (عبادة) وفق شروطها الفقهية، إلى (فكرة) قابلة للنظر وفق شروط علمية طبية، بسبب تحويل الموعظة الدينية إلى موعظة نصف علمانية، ثم يتفاجأوا بنتائج هذا المزج بين (العبادات الدينية) و(العادات الصحية)، عندما يخرج شاب من المتأثرين بهذ النوع من (الفصام الوعظي)، فيقول: أنا أصوم في رمضان عن الأكل، ولكن لا أصوم عن الماء لأن نقص السوائل علميًا مضر بالجسم؟!.

بقدر ما نفهم أن الدين مرتبط بخلاصنا الروحي (بعد الموت)، بقدر ما ندرك أنه لا علاقة له بالعلم المشغول بحياتنا (قبل الموت)، فإن أراد رجال الدين إنتاج خطاب يمزج بين (نظريات العلم المتحولة) و(تعاليم الدين الثابتة) فإنهم يصنعون شبهات في دينهم لم يفكر فيها الناس من قبل تصيبهم وتصيب أتباعهم بالفصام، وبقدر إصرارهم على اقتحام مجال العلم بقدر ما تتضخم كرة الشبهات أكثر وأكثر، وتزداد أعراض الفصام إلى حد الهلاوس الواضحة والتخريف، ثم يسألون: لماذا ينصرف الناس عن الدين كلما ازدادوا علمًا، وفي وجهة نظري أن الناس لم ينصرفوا طيلة التاريخ عن الدين رغم الفتن (الخوارج، القرامطة وسرقة الحجر الأسود.. إلخ)، ولن ينصرفوا عن دينهم أبدًا مهما زاد علمهم، ولكنهم قطعًا سينصرفوا فقط عن (راكب الجملين).