تاريخ اليهودية يمكن أن يعد مثلاً صارخاً، امتد عبر مئات طويلة من السنين، لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية. ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن في أي الحالات، أقلية حاكمة مسيطرة على زمام الدولة، كما الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب إفريقيا، وإنما كانت أقلية ضعيفة، من الوجهة السياسية، ومع حالة من هي ذلك فقد كانت وهي في حضيض الضعف، تمارس نوعاً من الاستفزاز، يدفع المجتمع الذي توجد فيه إلى اضطهادها رغماً عنه.

ذلك لأن أسطورة شعب الله المختار، مهما قيل عنها، تقوم بدور حقيقي في التراث اليهودي. صحيح أن المستنيرين من أبناء هذا التراث يحاولون تفسيرها بمعان غير عنصرية، ولكن هناك شواهد قاطعة، على أن هذه الأسطورة تكون جزءاً لا يتجزأ من التكوين العقلي لليهودي العادي، وتدفعه إلى أنواع من السلوك، لا بد أن تؤدي آخر الأمر إلى التصادم بينه وبين مجتمعه.

وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبش فداء» يفرغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الاخفاق ـ وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه، في حالات معينة على الأقل، فإن وقوع الاختيار على الأقلية اليهودية بالذات، طوال ألوف السنين، لكي تكون «كبش الفداء» هذا، هو أمر يدعو إلى التأمل العميق، ويدفعنا إلى البحث عن جذور التعصب في هذه الأقلية ذاتها، قبل أن نبحث عنها في المجتمع المحيط بها،

فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود، يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر رد فعل من جانب الأغلبية على الأقلية؛ إنه في حقيقته اضطهاد مضاد. أما الاضطهاد الأصلي فهو ذلك الذي تمارسه الأقلية اليهودية، وهو بطبيعة الحال اضطهاد صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضعف، ولكنه ينقلب إلى وحشية مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، كما الحال في مذابح فلسطين المشهورة... وعلى ذلك، فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، لقلنا عنه أنه تعصب مضاد، أو أنه في معظم حالاته رد فعل، أما الفعل الأصلي هي، والتعصب الأساسي، يرجع إلى خرافات وأساطير استفزازية عنيدة

على الدوام، تكون جزءاً لا يتجزأ عن التراث اليهودي.. ولعل أبلغ دليل على ما نقول هو أن اليهود ـ مهما كان مقدار ضعفهم في مجتمع ما ـ يرفضون الاندماج في هذا المجتمع، ويعدون هذا الاندماج علامة على انهيارهم، فيعملون على مقاومة هذا الانهيار بكل ما يملكون من قوة.

لأن الاندماج في الأغلبية والحصول على نفس حقوقها على قدم المساواة، هو الحلم البعيد الذي تكافح من أجله الأقليات بأرجاء العالم، وحسبنا شاهداً على ذلك كفاح زنوج أمريكا في سبيل المساواة، في فرص العمل والتعليم والحقوق السياسية، وسعيهم الدائب من أجل أن يسمح لهم المجتمع، بأن ينصهروا فيه ويكونون جزءاً لا يتجزأ منه، أما في حالة الأقلية اليهودية فإن الاندماج يعد في نظرها أفظع الجرائم، التي يمكنها أن ترتكبها في حق ذاتها. إنه خيانة للتراث اليهودي، وضياع لكل ما هو مميز «للشعب المختار». ومن هنا كانت صعوبة التعامل مع الأقليات اليهودية، وحتمية تحول هذا التعامل إلى اضطهاد، حتى في المجتمعات التي لم تكن تنوي ممارسة هذا الاضطهاد اصلا: إذ أن هذه المجتمعات لو منحت الأقلية اليهودية حقوقها المتساوية، وعملت على إدماجها فيها وإذابتها ذوباناً تاماً، لقوبل هذا الإدماج بمقاومة عنيفة منها، ولو تركتها تعيش على هامش الجماعة الكبيرة، لارتفع صراخها بالشكوى من الاضطهاد!

وواقع الأمر أن وجود نوع من الإحساس بالظلم والاضطهاد، كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من القوة الدافعة، التي ساعدت اليهود على التماسك والاحتفاظ بتراثهم على مر العصور، وإذا وعينا هذه على الدوام.

وليس في وسعنا أن نجزم إن كان هذا التفسير صالحاً للانطباق على كل حالات التعصب، التي شهدها البشر على مر التاريخ، ولكن الأمر المؤكد هو أن النظرة الفاحصة إلى مظاهر التعصب في عالمنا المعاصر، تقنعنا بأن هذا هو التفسير الأكثر انطباقاً على الواقع الذي نعيش فيه. فالحكم على الزنوج بالدونية هو الذي يجعل الأغلبية البيضاء في أمريكا، والأقلية البيضاء في روديسيا وجنوب إفريقيا، تستغل عملهم بأبخس الشروط، وتبرر لنفسها ذلك بضمير مستريح.

والاعتقاد بأن الشعب اليهودي شعب مختار، وعده الله منذ ألوف السنين بأرض فلسطين، هو الذي يبرر للصهيونية طرد العرب.

1971*

*أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة «1927-2010»