سنحاول تفكيك (أنساق العجم) التي امتدت باتجاه العقل العربي (الحديث) لتجعل أحد السعوديين، الذي يعتبر أشهر منظري (البنيوية والتفكيك) يرى في اللغة العربية (نسقا ذكوريا فحوليا) بينما اللغة (أي لغة) كائن حي له تحولاته التاريخية المتأثرة بواقعها وتكيفها معه.

ولهذا عجز هذا البنيوي الكبير عن أن يفسر كيف تكون كل مشاكلنا من لغتنا العربية (الذكورية وما تنتجه من فحلنة ليضعها لازمة فكرية لكل أطروحاته)، بينما (النسق العربي القديم) في وثنيته كان يعبد الثالوث الأنثوي (اللات والعزى ومناة)، ولهذا فإن (نظرية النسق الفحولي لن تصمد مثلاً أمام كتاب عائشة الحشر في تاريخ الانقلاب العظيم على المرأة واللغة)، مما يؤكد أن الأنساق ليست مستقرة تاريخياً منذ العهد الأمومي وصولاً للأبوي، وهذا يفسر ما كان يقبله العربي من ادعاء المرأة للنبوة ولو كذباً (سجاح بنت الحارث التميمية)، ليتبعها قومها من غير شعور (بالعار الفحولي) من طاعة امرأة، بل واعتبارها نبية، بل إن المزاج العربي على امتداد الجزيرة العربية طرح نماذجه منذ (الملكة زنوبيا) التي اعتز بها العرب فسموا بها بناتهم بعد ذلك تحت اسم (زينب)، إلى (بلقيس في اليمن) حتى جاء (العقل الأعجمي) الذي (استفحل) أثره في (العقل العربي) مع نفوذ قبائل (الأتراك) سراً داخل هيكل الدولة العباسية، ولتأتي قبائل المغول علناً فتكمل ما بقي.

ما أطرحه هنا ليس ابتكاراً أو قولاً جديداً بل هو مجرد (محاولة للفهم) من خلال الإمساك ببعض آراء الأقدمين، ومنهم ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» المكتوب سنة 460 هـ/1067م، حيث يقول فيه ص48: «ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبدالله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة وقوة نفسه الفاضلة فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطاطاليس وأبقراط وجالينوس وأوقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فنفقت سوق العلم في زمانه وقامت دولة الحكمة في عصره وتنافس أولو النباهة في العلوم.... حتى كادت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومية أيام اكتمالها وزمان اجتماع شملها، ثم بدأت تنقص ولتمام ثلاثمائة سنة خلت لتاريخ الهجرة تداخل الملك وتغلب عليه (الفساد والأتراك)، فلم يزل الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن إلى أن كاد العلم يرتفع جملة في زماننا هذا والحمد الله على كل حال». وهذا الاقتباس من كتاب ابن صاعد الأندلسي، لم يكن لو لا لفتة الشاب النابه دخيل الله السبيعي لذلك، وإلا فالكاتب كان غافلاً عن هذا المرجع.

كما أن ابن خلدون في مقدمته المشهورة أشار إلى معنى مهم عند حديثه عن العلوم الدينية وتحولها إلى (صناعة ووجاهة ولقمة عيش)، بل وحديثه عن قراءة القرآن وكيف أنه (في زمنه) كان يميز العرب الأقحاح من مضر عن قارئ القرآن من غيرهم، بأن عرب مضر يرققون القاف جداً في قوله تعالى «اهدنا الصراط المستقيم»، فكأنها وسط بين (القاف والكاف) بما يعيد لك ذاكرتك إلى لسان أجدادك وأنت تسمعهم في الصلاة يقرأون بهذه الطريقة، حتى جاء زمن (صغار الأسنان) من أبنائنا الذين حفظوا القرآن عن (العجم)، فتخلوا عن لسان أجدادهم باعتباره (لحناً مُخِلاً). ولنستكمل بمثل هؤلاء الأولاد مسيرة (تخلفنا الحضاري) في (داعش والقاعدة)، ثم يسأل المغرضون باستنكار: لماذا دولتنا (العربية المسلمة) اهتمت بمشروع توثيق الأحاديث النبوية، وبعض أبنائنا- للأسف- من تلاميذ العجم في حلقات التحفيظ، هم أول المستنكرين لهذا، صامتين عن انشغال تركيا بالمشروع نفسه، فكأنما تصحيح المسار في (الحضارة العربية الإسلامية) منذ العباسيين يولد من خلالنا ليقاومه بعض أبنائنا، مع محاولات (العجم) الحفاظ على (مقود الحضارة العربية الإسلامية) بأيديهم، من مؤتمر جروزني إلى تجمعات إسطنبول وطهران (الإسلامية!!).