أعلنت إيران، الخميس الماضي، أنها صنّعت صاروخًا باليستيًا فرطَ صوتي قادرًا على «اختراق كل منظومات الدفاع الصاروخي»، وقال قائد القوة الجو-فضائية في «الحرس الثوري»، الجنرال أمير علي حاجي زاده، إنه يستبعد العثور على تكنولوجيا قادرة على مواجهة هذا الصاروخ «لعقود قادمة». لم يُجرَّب بعد هذا الصاروخ الذي يشكّل «قفزة كبيرة في أجيال الصواريخ»، بسرعته الزائدة خمس مرات عن سرعة الصوت... لكنه، بالتأكيد، لن يتمكّن من التفوّق على صوت الانتفاضة الشعبية التي تتواصل منذ شهرين في إيران، والمؤهّلة للاستمرار طالما أن العقول العلمية في نظام الملالي و«الحرس الثوري»، التي تنتج أحدث الأسلحة المدمّرة لـ «إخافة» الجيران والعالم، لم تتوصّل إلى تصنيع حلّ لأزمة داخلية عميقة، عمرها من عمر النظام، وتبيّن الآن أنها غير قادرة على التعامل معها، علمًا بأنها نتاج إهمالاته الكثيرة للداخل، ولا سيما للمرأة والشباب، وللوضع الاقتصادي والمعيشي، والأهم للحريات والحقوق الأساسية. كانت الأسباب الإنسانية لانهيار الاتحاد السوفياتي منافسة للأسباب الاقتصادية وخسارة السباق إلى التسلّح والتخلّف في «حرب النجوم».

عندما ينخر العفن في الداخل ويتمادى لفترة طويلة من دون تجديد، تصعب معالجته حين ينكشف وتظهر آثار اعتماله. عندئذ تصبح كل بضاعة النظام، من أيديولوجية وأدوات عسكرية، مجرّد خردة تفيد أكثر في تدمير الذات منها في هزيمة الأعداء. قد لا تتكرّر التجارب والوقائع بالنتائج نفسها، غير أنها أظهرت على مرّ التاريخ أن الشعوب من طبيعة واحدة في توقها إلى الحرية والعيش الكريم ورفض اعتبارها قطيعًا خانعًا مستكينًا له تاريخٌ وليس له مستقبل. ولا يمكن أن يكون الشعب الإيراني استثناءً لهذه القاعدة أو مصابًا جماعيًا بتشوّه خلقي يحول دونه وممارسة إنسانيته. فالأنظمة تأتي وتسود وتتجبّر، ثم تزول مع قمعها وجبروتها، ولا يبقى منها سوى ما ترتضيه الشعوب من أجل بقائها ونمائها. فرك نظام الملالي أيديه مغتبطًا ومتفرجًا على وقائع «الربيع العربي»، معتبرًا أنه من فروع «ثورته» المصدّرة ومتأهبًا لقطف الثمار في الدول المتساقطة. ما يجري في إيران ليس أقلّ من ذلك «الربيع»، بل لعلّه نسخة منقّحة منه، ولا شيء يدعو إلى الشماتة أو الاغتباط، لأن ثمة مأساة هنا، والشعب يبذل ما يستطيع للخلاص من زُمرٍ ذهبت بعيدًا في احتقاره.

المسألة ليست في حجاب مهسا أميني أو سواها، بل في الازدراء الذي تبديه «شرطة الأخلاق» للمرأة، باسم «إسلام» النظام. وليست في مفاضلة مناطق على أخرى، بل في اضطهاد الكرد والعرب والبلوش وحتى الأذريين كأقليات لا حقوق لها ولا خصوصيات، ودائمًا باسم «إسلام» النظام. وليست في شباب جامعي طامح إلى ما يتجاوز حقوقه الإنسانية، بل في الضغط عليه لأدلجته والتحكّم بحياته ومستقبله وفي عدم احترام عقله ودفعه إلى اليأس والإحباط، ما لم يجنح إلى «خط الإمام». وليست، أخيرًا، في شعب لم يقدّر «الأمجاد» التي ارتقى به النظام إليها، بل في أنه شعب يريد حياة سويّة وأمنًا وأمانًا وحريّات خاصة لا تُداس بأقدام «الحرس» و«الباسيج» وما يتفرّع عنهما، ويريد دولةً واقتصادًا «طبيعيين» غير ملوّثَين بهذا الكمّ الهائل من الفساد والغشّ، وعملةً لا تفقد قيمتها يوميًا. هذا شعب مجّ أحاديث البطولة في مقاومة العقوبات الأمريكية وغيرها، وطفح به الكيل من أوهام القوة النووية وحقائقها، ولا تعنيه مغامرات «الحرس» في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغزّة ومخيمات تندوف، ما دام يعيش أسوأ أيامه على أرض وطنه ويرى ثرواته تتبخر أمامه من أجل مجرمين موصوفين وعصابات وميليشيات هنا وهناك.

ما الهتاف بسقوط الدكتاتورية والمرشد و«الحرس» والرئيس وغيرهم من الرموز التي يحوطها النظام بالتقديس، سوى خلاصة المعاناة الشعبية وتحديدٌ لمكمن الداء والألم. أصبح واضحًا أن هذه الانتفاضة عمّا سبقها، كالاحتجاج على تزويرٍ مكشوفٍ للانتخابات، وليست فقط لإشهار النقمة على الأوضاع المعيشية، وإنما هي تحدٍّ لعقلية الحكم ولـ«ثقافة» فرضها النظام لتسويغ شدّته وقمعه، وهي رفض جذري لإنكار وجود الشعب والتزوير المزمن لإرادته. وعلى الرغم من محاولات تجهيله والتعتيم عليه، برهن الشعب أنه يعي تمامًا المخاطر التي تتهدّده فالنظام لن يتردّد في البطش ولا يملك خيارات حوارية أو «ثقافية» كالتي أشار إليها المرشد. سواء بتخطيط أو بلا تخطيط أظهرت الانتفاضة أنها استفادت من تجارب السوريين والعراقيين وغيرهم وابتكرت أساليبها الخاصة، ففجأةً أصبحت عموم المناطق بؤرًا للاحتجاج تصعب مواجهتها وإخمادها في آن، وكلّما أوحى النظام بأنه انتهى من موجة يُعلن عن موجة مقبلة. أيام الجمعة وإحياء الأربعينيات والحفاظ على صورة مهسا أيقونة باتت عالمية للحراك وإبراز الشهداء وذكراهم... كلها تدابير وكمؤشرات لانتفاضة طويلة النَفَس، على الرغم من أن الأعداد المتداولة عن القتلى والمصابين والمعتقلين هي أقلّ بكثير من الواقع، ويعني ذلك أن جدار الخوف قد اختُرق، مثلما اختُرق جدار الحجب الإعلامي.

لا خشية على تماسك النظام وثباته، ولا من احتمالات سقوطه والفوضى التي قد يتسبب بها. لكن هذا لا ينفي أن النظام استشعر منذ الأيام الأولى أنه خسر رهانه على سكوت الشعب وخضوعه وصبره. سقطت الستارة التي كانت تختبئ سوءات النظام وراءها. شعر الأفراد النظاميون داخل بيوتهم ومع نسائهم وأولادهم، كما في بيئاتهم الاجتماعية، بأن الوهم الكبير الذي عاشوا فيه أربعة عقود ونيّف لم يعد قادرًا على الصمود، فقد أعدّوا البلاد لمواجهة أي خطر خارجي ولم يلتفتوا إلى الخطر الداخلي المتنامي. لم يعد ممكنًا ولا مجديًا إيهام النفس بأن ما يجري ليس سوى «مؤامرة كونية» تقودها أمريكا وإسرائيل.

وبالتالي يمكن القضاء عليها استناداً الى الخبرة وشعارات المقاومة. هناك أسلحة ظهرت ومواجهات حصلت في كردستان وبلوشستان، وربما تتكرّر في مناطق أخرى، وماذا يُنتظر من أقليات مضطهدة. بل هناك "داعش" الذي قتل المصلّين في شيراز وفي عمليةٍ مشتبهٍ بها. لكن حراك النساء والشباب استمرّ غير معنيّ بأي أعمال دموية.

كانت مقتل مهسا أميني شرارة غير متوقّعة ولا مرتّبة، وقد انطلقت من أحد مقار "شرطة الأخلاق" وليس من أي مكان يستوجب اتهام جهات خارجية أو قصف مناطق في أربيل والسليمانية أو توعّد أي دولة بالردّ على تدخّلها. ففي أي مواجهة مع الخارج اعتاد النظام على استدراج صفقات يحافظ بها على قوّته، إلا أنه يرفض أي تسوية مع الداخل ويعجز عن اجرائها لأنه سيخسر فيها حتماً شيئاً من أكاذيب وجوده.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي