قد يُوحِي هذا العنوان، بمسرحِ ما بعد الدراما، الذي قد يُسميه البعضُ فنونًا أدائية/الفُرجة، ويُريد بها فقدان الغاية في المعنى. لكنّه يُشير -على مستوى خاص- إلى لحظةٍ تخلَّصت من قواعدِ أرسطو الدرامية، وتمسّكَت بقواعدِه السياسية؛ بوصفها سلطة متغيرة؛ مما أنتج سلطة أشملَ؛ إذ ذهبت بالمسرحِ إلى بيوتِ المتفرجين، فواجهتهم بواقعهم، ليتغيروا؛ لهذا أريد أن أؤرخ نقديًا لظاهرةِ مسرحية، تصنع لها تمسرحها خارج الخشبة، ولا أعني المسرحية التلفزيونية، بل حديثي عن تجربةٍ عربيَّةٍ، تحمل معها جوهرًا مسرحيًا، وأساسًا متينًا في تاريخه، لكنها تتخلى عن روحِ الخشبة وفيزيائيتها، وتحمل معها تقنيات تلفزيونية، لكنها ليست عملًا تلفزيونيًا خالصًا، وهذه التجربة جاءت بعدَ الاستقلال من المستعمر، حاملةً معها قيمًا استعماريّة بشكلٍ ما؛ لكنها -في الآنِ نفسه- تستبطنُ الثقافة العروبية. وما يضبط علامات هذه الظاهرة، هو البُعد المسرحي لسلوكِ الإنسانِ في مجتمعه، وعلاقته مع مكونات الدولة، وهو ما أُطلق عليه هنا (التمسرح خارج الخشبة).

المسرح السُّوري له تاريخٌ مهمٌّ؛ بدأ من أيامِ استعمار العثمانيين، مرورًا باستعمارِ الفرنسيين، حتى الاستقلال وما بعده، ولكلِ حقبةٍ مسرحُها؛ فأبو خليل القباني، اتخذَ من تهذيبِ الأخلاقِ ومعرفة طرق السياسة العربية مسرحًا لمواجهةِ العثمانيين، وأما تأسيسُ النوادي والفرق المسرحية ونشاط حركة التأليف بين الحربين العالميتين، فكانت لمعرفةِ طُرقِ السياسةِ التي تدحر المستعمر الفرنسي، ثم جاءت مرحلة ما بعد الاستقلال، وهي تأسيس المسرح القومي. وهذا المسرحُ أبرزَ الكُتَّاب والممثلين، وكان منهم نذير العظمة، وياسر العظمة، ويُقابلهما دريد لحام بوصفه بدأ بطريقةٍ معاكسة لممثلي المسرح القومي؛ إذ بدأ بالتلفزيون -مع انطلاقته الأولى- ثم انتقلَ للمسرحِ. وهؤلاء الثلاثة يجمعهم الاهتمام بقضايا العروبة، وتُفرّقهم التقنيات الموصِلة إلى تمسرحٍ خارج الخشبة؛ فنذير كاتبٌ مسرحيٌّ، ومُنَظِّر يبحث عن هويةٍ عروبيّة في المسرح، وقد جاء إلى جامعةِ الملك سعود، ليعمل فيها أُستاذًا للأدبِ الحديث، عام 1983، وكُلِّف بإلقاءِ محاضرات مُطولة عن الأدبِ المسرحي، مما جعله يُنظِّر للمسرح السعودي. ولأنَّ للسعوديةِ تاريخها العريق المتّصل بقلبِ الجزيرة العربية الذي لم يتعرض لاستعمار، فإنَّ نذيرًا استحضر عربيةَ المنطقة؛ وتأملَ بها المسرحَ السعودي، فنجده يقول في هذا السياق: «نبحث عن هويتنا التي تعبر عن جذورنا في الماضي، وتصوراتنا الحاضرة»، لكنّه أنتجَ رؤيةً متوزعة بين الأصول النظرية الإغريقية للمسرح، والبحث عن صناعة مسرحٍ عربي، ومن هنا اتخذَ من مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزاز) دليلًا على إمكان قيام صناعة خاصة؛ وذلك بتقنيةٍ تُخرِج التمسرحَ خارجَ الخشبة. لكن ما أريده في هذه المقالة، هي الأسباب المعنوية التي جعلت هؤلاء الثلاثة يُخرجون التمسرحَ خارج شروط خشبته؛ وهي رؤية أيديولوجية، تعتمد -في شكلها البنائي- على أنَّ المسرحَ هو الإنسان، وأما المجتمعُ فهو النصُّ. وتعتمد -في مضامينها الدرامية- على الهمِّ القوميِّ الاشتراكي، وقضيةِ النضالِ العربيِّ التحرري، والقضيةِ الفلسطينية. وهذه الرؤية هي التي تعقد صلتهم بالمسرح كرسالةٍ قديمة، وليس بما بعد الدراما، أي أنَّ مسرحَهم سلطةٌ تتوسّط بين حالة واقعيّة، وأخرى مسرحيّة.

لهذا فإنَّ نذيرًا وهو يُفَكِّر بالمسرحِ السعودي يَستحضر تلك المضامين بأيديولوجيا ليست من صُلبِ بنية الدولة السعودية، ولعلَّ هذا إشكالٌ خطير في عقليةِ اليسار العربي بجميع مشاربه وتياراته، فنذير حين جعل التقنيات المسرحيّة مدخلًا للتعبير عن المجتمع العربي بصفةٍ كلية، فإنه متأثر بنظرية هيبوليت تين حول الخصائص القومية للأمة، لهذا نجده يجعل موروث العرب الذي في المحيط كموروث العرب في الجزيرة العربية، وكل ذلك لصياغة نمطٍ بتقنياتٍ موحدة يشتغل عليه المسرح العربي.

ويمتد تأثر نذير بهيبوليت تين، إلى أن يجعلَ البيئةَ حتمية في الأمة العربية؛ أي أن يكونَ المسرح صورة للبيئة، ومن ثم يكون المناخ مؤثرًا على مزاج العربي، لكن أيّ مناخ، أهو مناخ المحيط الأطلسي، أم مناخ الخليج العربي؟ هذا ما يجعل غرور النظريات يتحطم على صخور التشظيات، لكنَّ الذي جعلَ هيبوليت تين يُنظِّر هكذا؛ هو ليجعل البيئة مفهومًا متحركًا، أي أن تكونَ روحَ العصر، أو مكانَ العمل الأدبي، ومن ثمَّ يكون الفنُ جوهرَ التاريخ، وهو بالضرورة -حينئذ- يُعبّر عن الحقيقةِ التاريخية؛ أي حقيقة الإنسان في زمن معين ومكان معين. وهذا ما يجعل نذيرًا يتشتّت في رؤيته التنظيرية حول الحقيقة التاريخية في زمانٍ ومكانٍ معينين؛ فهو يريد العودةَ إلى جذورِ العربِ ليَمدها إلى كُلِّ دولها، وأن تُصنَع تقنيات مسرحِها -سخريةً- تحت عين جامعة الدول العربية، وفي الآن نفسه يقول عن مسرحيات توفيق الحكيم: «...حتى إنَّ المسرح اليوم لا يطمح إلى إخراج ما كتبه الحكيم وأمثاله...»

وبما أنَّ نذيرًا لم يقتنع بتاريخيّة المسرح العربي، فإنه اضطرّ لتثبيتِ الأصولِ الإغريقية للمسرح، وتغييرِ الأشكالِ والصيغِ، وبلحظةِ تناقضٍ دعا إلى تكسير القيود الأرسطية، بحجةِ أنَّ الممارسات الأوروبية تطوّرت لما تمردت على يد شكسبير ثم إبسن.

لكن إذا كانت المقومات العربيّة المتجاوزة للقطريات غير موجودة فيما هو أبسط من إشكالية الفن -فضلا عن الفن ودهاليز فلسفته- فهل يكفي تغييرُ الأشكال والصيغ لصُنع مسرح عربي؟ هنا تتجلى المفارقة عند نذير في مفهوم الشمولية، المتخمرة في مركزية غربية، حين استخدم ذهنية غربيّة ليبيّن سيرورة التاريخ على المسرح؛ فطرحَ ثلاثَة مجارٍ؛ مجرى التحويل، فمجرى التشكيل، ثم مجرى الابتكار. أما التحويل فهو تغيير نصٍّ مسرحيٍّ في لغةٍ ما، وإدخاله في لغةٍ وتقاليد أخرى.

وأما التشكيل فَصَبّ الهوية في تقنية جاهزة، وأما الإبداع فهو صناعة النماذج والتقنيات العربية. وبما أنَّ التنظير الشمولي، ينسى أثرَ الزمن، وتداخل العوامل، وقابلية الأفراد المتنوعة، فيأتي برؤى متضاربة حين يواجهه الواقع، فإنَّ نذيرًا لم يتصالح مع مسرحية الممثل الواحد (المونودراما)؛ لأنها كما يقول: «تفصل البطل عن محيطه الاجتماعي، وتجعل مسرح الأحداث هو النفس الفردية، وينتج عن هذا الاجتماعي فصل تاريخي».