يتتبع روائي وكاتب من الإرغواي «أول بلد فاز بكأس العالم 1930 » إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل»، تاريخ كرة القدم وأحوالها منذ كأس العالم 1938 وحتى مونديال 1994، كما يتتبع كرة القدم أيضًا، منذ أن كانت مجرد هواية، وتحولها بعد ذلك إلى صناعة تدر الملايين، ويستثمر فيها الأرباح الفلكية، وتجري في أروقتها الصفقات، ويخرج منها دخان الاتهامات بالفساد والرشوة.



الاتحاد الامبراطورية

مع نهايات التسعينينات تحول الاتحاد الدولي لكرة القدم المعروف اختصارا بـ " فيفا" إلى امبراطورية مستقلة لها من النفوذ ما يوازي عديد مؤسسات ومنظمات هيئة الامم المتحدة،ولعل البعض لا يغالي إن ذهب إلى اعتبار نفوذ الفيفا الأقوى تأثيرا، لأنه يتعاطى مع تلك النزعات العاطفية والوجدانية للشعوب عبر اللعبة الشعبية الأولى في العالم التي ترتهن لإيقاعها نبضات الشعوب بكل شرائحها ( العمرية والاجتماعية بل والجندرية)، فكرة القدم ، بحسب الأمين العام لفيفا خلال حقبة الثمانينيات السويسري جوزف بلاتر الذي اطاح بالبرازيل جواو هافيلانج، ( 1916 - 2016)،من رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي رأسه هافيلانج منذ 1974 حتى 1998
" ليست مجرد لعبة ولكنها نشاط تجاري بمليارات الدولارات ، وهي تصنع فرصا ولكن أيضا تتسبب في أوضاع مثيرة للجدل وصعوبات".

وتقريبا هذا بالضبط، ما دونه غاليانو في تتبعه لمسار انحرافات اللعبة.
تأكيد الجدارة وإثبات الذات
يروي غاليانو أن ( أحد الصحفيين سأل المنجمة الألمانية دورثي :

- كيف توضحين لطفل ما هي السعادة؟

فردت عليه :

- لا أوضح له ، بل اعطيه كرة ليلعب) .


هكذا بدت الشعوب العربية ، عقب الجولة الأولى من بطولة كأس العالم في نسختتها الثانيةوالعشرين التي تنتظم فعالياتها هذه الأيام في قطر، حيث "منحت شاشة لتسعد" ، أو كأنها بدت هكذا وهي - من البحر إلى البحر - تبتهج منتشية بنتائج المنتخبات العربية التي استهلتها السعودية بفوز تاريخي على ( ارجنتين ميسي) 2 / 1، ثم تعادل تونس مع الدنمارك سلبيا، وهي النتيجة نفسها التي سجلتها المغرب أمام كرواتيا.

وتجلى بوضوح ما لفت إليه غاليانو وهو يشير في كتابه إلى أن( كرة القدم مرآة للعالم . وهي تقدم الف حكاية وحكاية مهمة . فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس ) .. ويمكن بتأمل وقراءة الحالة العربية الإضافة لغاليانو ( .. والفرح .. فرح قد يصل لحد المغالاة في بعض مساراته، تعبيرا عن احتياج عميق لفرح حقيقي ، منطلقاته أن الفرد من هذه الشعوب ، ليس بعاجز عن صناعة البهجة ، وتأكيد ذاته أولا ، وأنه لا يقل كفاءة وانجازا عن سواه من البشر في اصقاع العالم، إن اراد).

قوانين السوق

ربما استعاد قطاع عريض من الجماهير العربية ، متابعتهم لأعظم منتخب أنجبته تونس ، الذي كان ممثلا وحيدا للعرب في مونديال الأرجنتين 78، وربما استرجعوا أسماء ( شتالي، جندوبي، تميم ، بن عزيزة، ذياب ، محمد علي عقيد، العقربي ) .. وغيرهم من كوكبة التوانسة في ذلك المونديال، الذي تحولوا بعده إلى جواهر توازعته السوق الكروية.

وهو ما فعله غاليانو بالضبط في كتابه حيث ( اعاد إلى بؤرة الضوء حشدًا كبيرًا من الذكريات واللحظات الساحرة، تلك التي تنسينا أن كرة القدم الاحترافية «هي رهن بقوانين السوق» مع أن اللاعبين «أناس يجعلون الوهم ممكنًا».

رسالة عزاء صغيرة

في كتابه «كرة القدم: بين الشمس والظل»، يتناول غاليانو بعض أركان هذه اللعبة «التي توجّه، عادة، من قبل رجال أعمال وسياسيين يستخدمون كرة القدم كمنجنيق دعائي للوصول إلى الصدارة في الإعلان».

قاللاعب .. يركض لاهثًا على شفير الهاوية، في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار، الحي الشعبي الذي خرج منه يجسده بأسره: فاللاعب المحترف قد نجا من العمل في المصنع أو المكتب، إنهم يدفعون له من أجل توفير التسلية، لقد ربح اليانصيب، وبالرغم من أنه يتوجب عليه أن ينضح عرقًا مثل مرشة، دون أن يكون له الحق في التعب أو الخطأ، فإنه يظهر في الصحف والتليفزيون، النساء يتنهدن من أجله، والأطفال يريدون تقليده، أما هو الذي بدا يلعب من أجل متعة اللعب، في الشوارع الترابية للأحياء الهامشية، فقد صار يلعب الآن في الإستادات الكبرى من أجل واجب العمل، وهو مجبر على الربح.

رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يديرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال، وكلما نال شهرة أكبر، وكسب أموالاً أكثر، يصبح أسيرًا أكثر، في المهن الإنسانية الأخرى يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره؛ لأن العضلات تتعب باكرًا، وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلاً:

- هذا لا يمكنه أن يسجل هدفًا حتى في ملعب يميل نزولاً.

- هذا لن يسجل هدفًا حتى ولو قيدوا له يدي حارس المرمى.

وقد يشيخ لاعب كرة القدم قبل الثلاثين إذا ما أفقدته ضربة كرة صوابه، أو إذا ما مزق سوء الحظ إحدى عضلاته، أو كسرت ركلة إحدى عظامه التي لا سبيل إلى إصلاحها، وفي يوم مشؤوم، يكتشف اللاعب أنه قد قامر بحياته، وأن المال قد تبخر وتبخرت معه الشهرة أيضًا، فالشهرة سيدة محترمة مراوغة، لم تترك له حتى رسالة عزاء صغيرة.

حارس المرمى

( يسمونه البواب، والغولار، وحارس حاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إن المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبدًا.

إنه وحيد.. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد، ينتظر وحيدًا إعدامه رميًا بالرصاص بين العوارض الثلاثة، كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم، أما الآن فلم يعد الحكم يتنكر بزي الغراب، وصار حارس المرمى يسلي وحدته بتخيلات ملونة.

حارس المرمى هو المذنب دائمًا، وهو الذي يدفع الثمن، حتى لو لم يكن مذنبًا، فعندما يقترف لاعب كرة خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمل هو العقوبة، إنه لا يسجل أهدافًا؛ بل يقف ليمنع تسجيلها، ولأن الهدف كرة القدم، فإن مسجل الأهداف يصنع الأفراح، أما حارس المرمى، غراب البين، فيحبطها.

يمكن للاعبين أن يخطأوا مرات، ولكنهم يستردون مكانتهم بعد القيام بمراوغة استعراضية، أو تمريرة بارعة، أما هو فلا يمكنه ذلك، الحشود لا تغفر لحارس المرمى، بخطأ واحد قد يدمر حارس المرمى مباراة كاملة، أو يخسر البطولة، وعندئذ ينسى الجمهور فجأة كل مآثره، ويحكم عليه بالتعاسة الأبدية، وتلاحقه اللعنة حتى نهاية حياته.

اعتراف المؤلف

لقد رغبت مثل جميع الأرغوايين في أن أصبح لاعب كرة قدم، وقد كنت ألعب جيدًا، كنتُ رائعًا، ولكن في الليل، فقط في أثناء نومي: أما في النهار فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي، لقد مرت السنوات، ومع مرور الوقت انتهيت إلى القناعة بهويتي: مجرد متسول أطلب كرة قدم جيدة، أمضي عبر العالم حاملا قبعتي وأتوسل في الإستادات: فأنا.. لعبة جميلة حبًا بالرب.. وعندما أرى كرة قدم جيدة، أحمدُ هذه المعجزة دون أن يهمني قـدر فجلة من هو النادي أو البلد الذي قدم ذلك اللعب الجيد.

تاريخ كرة القدم

هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب، وفي عالم نهاية قرننا هذا تستنكر كرة القدم الاحترافية ما هو غير مفيد، وما هو غير مفيد في عرفها هو كل ما لا يعود بالربح، وليس هناك أية أرباح تجنى حين يتحول الرجل لبرهة إلى طفل يلعب بالكرة مثلما يلعب الطفل بالبالون، ومثلما تلعب القطة بكبة خيوط صوفية.

يصبح راقصًا يرقص بكرة خفيفة مثل البالون الذي يطير في الهواء أو مثل كبة الصوف التي تتدحرج، لاعبًا دون أن يدري أنه يلعب ودون أن يكون هناك سبب أو توقيت أو حكم، لقد تحول اللعب إلى استعراض فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين إنها كرة قدم للنظر، وتحول هذا الاستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم لا يجري تنظيمه من أجل اللعب، وإنما من أجل منع اللعب.

لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة، ومن حسن الحظ أنه مازال يظهر في الملاعب، حتى وإن كان ذلك في أحيان متباعدة، وقح مستهتر يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عـن كل الفريق الخصم، وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق.

إدواردو هيوس غاليانو

صحفي وكاتب وروائي أوروغواياني

ولد عام 1940

أشهر أعماله «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» وثلاثية «ذاكرة النار».