شاهد العالم وزيرة الخارجية ألمانية وهي ترتدي الشارة الملوّنة، في وقت كان منتخب بلادها يسعى لإظهار أنه ممنوع من الكلام بشكل أكبر من فعاليته في الملعب، يأتي هذا في وقت استهجن فيه العرب والمسلمون هذا الحرص على هذه القضية. في المقابل زعمت التصريحات الألمانية، أن هذه القضية تتعلق بحقوق الإنسان، ليست سياسية، ولا ثقافية، وتزعمت ألمانيا التسويق لهذا.

لو رجعنا للتاريخ القريب لألمانيا من الحرب العالمية الثانية، حين وصل إلى سدة الحكم في ألمانيا أخطر الأحزاب عنصرية ( النازية)، وأدخلت العالم في دوّامة من الجرائم الكبرى، وقلنا لندع التاريخ في موضعه، لوجدنا أن ألمانيا -وهي إحدى أهم الدول الداعمة لأوكرانيا في الحرب مع روسيا - لم تصنع شيئًا حين بدأت التعبئة العامة في أوكرانيا للرجال من سن 18، إلى 60، إذ ألزموهم بالخدمة العسكرية باعتبار أن المواطنين إما رجال يجب أن يخدموا في الجيش، أو نساء! لا حديث هنا عن جنس آخر، عن فئات مختلفة لهذا التقييم، عن شعور في المواطن بأنه لا يجد نفسها رجلًا أو أنه يرفض هذا التقييم.

أين كانت اعتبارات ألمانيا في موضوع (المتحولين)، بأنهم جزء من حقوق الإنسان لا السياسة كما تدعي؟

فبعد ثلاثة أيام فقط من الحرب الروسية الأوكرانية، لم يلتفت أحدٌ إلى الأعلام الملونة، بل كان الجميع يستمع إلى بيان المستشار الألماني أولاف شولتس بإعلان ضرورة إعادة الاعتبار للجيش الألماني، بإنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتمويله، وازداد الدعم الألماني لأوكرانيا بعيدًا عن مسألة المثلية والمتحولين.

وفي الوقت الذي حرص فيه الرئيس الأوكراني على حشد كل ما يقدر عليه في الحرب مع روسيا، أعلن أن الدستور الأوكراني ينص على أن الزواج مكون من رجل وامرأة، وأنه لا يمكن تغيير القانون في حالة الحرب، أو الطوارئ. كانوا في حاجة إلى مقاتلين، وألمانيا لم يكن يعنيها أكثر من إعاقة التقدّم الروسي، فلا حديث هناك عن تكميم أفواه أو حقوق للمتحولين أو المثليين.

تركت ألمانيا البوابة الشرقية لأوروبا تشتعل بالحرب، وهي تزود أوكرانيا وبولندا بالصواريخ، رغم فظائع الحرب التي تحصل قريبًا منها، واختارت أن تترك ملف المثليين والمتحولين هناك، وأن تنقله إلى كأس العالم، وتبقى مصرة على وضع نفسها في موضع الأستاذ الذي يعطي محاضراته الأخلاقية بزعمها على العالم، في حين لا التاريخ ولا الحاضر يساعدان المزاعم الألمانية لبيان أن دافعها لم يكن سياسيًا صرفًا، حين حولت منتخبها إلى بوق دعائي لا أكثر.

في مثل هذا السياق يدرك المراقب أن المسألة لا تتعلق بنظريات حقوقية، بقدر ما هي سياسية، ولو سلم جدلًا باقتناعهم بها، فإنهم كانوا دومًا يقدرون على إعادة ترتيب أوراق أولوياتهم فيها بناء على الربح والخسارة، فمتى كانت أوكرانيا تقاتل فهذا يصب في مصلحتهم، وبالتالي لا كلام معهم عن أي شيء في مثل هذا الموضوع، لكنه يضحي الدعاية التي تشغل الإعلام الألماني حين يتعلق الأمر بالعرب، والإسلام والمسلمين.

حين يرى المرء ما سبق أن حدث في نصف القرن العشرين، يفترض أن الألمان قلّت ثقتهم المبالغ فيها بآرائهم، فقد جربوا أن يفرضوا آراءهم حينًا من الدهر على العالم، جربوا أن يجعلوا في قالب من النظرية التي يناصرها أطباء وعلماء مختلفون، ورأوا نتيجة هذا في الهزيمة، ثم توزعت ألمانيا إلى قسمين، واحد مع العالم الغربي وآخر مع الشرقي السوفييتي.

كان الدرس السابق يلقي بظلاله في أن تحترم ألمانيا باقي العالم، وتقل ثقتها بآرائها ونظرياتها، فليست هي الوحيدة الحية على هذا الكوكب، لكن ما حدث في كأس العالم، يظهر أن قلة هي التي تتعلم دروس التاريخ، فليست الثقافة الألمانية هي معيار البشرية، فضلًا عما يحويه فضاؤها حتى الآن من رواسب لا تزال تعاني منها، كالعنصرية، والأحزاب اليمينية المتطرفة التي تنتعش في شوارعها. كان لها في هذا شغل عن التدخل في شؤون غيرها، ومحاولة فرض رؤيتها عليهم داخل بيتهم. يرى المواطن الألماني حربًا يخشى أن ينتقل أوارها إلى غيرها في أوروبا، وبدل أن يتخذ ساسته شيئًا لوقف نزيف الدماء، فإنهم يرسلون الصواريخ إلى مناطق الصراع، ويفتعلون مشاكل في كأس العالم!