لكل إنسان ملامحه الذهنية الخاصة. من الصعب أن يكون أحد نسخة من آخر. لكنه يمكن أن يصبح خريجاً لمنهجية أو مدرسة ما. والحاكم يجب أن يتحلى بمزايا خاصة. إذ إنه بالضرورة أن يكون ذا تفكير منفرد عن غيره، وليس تقليديا، وقبل ذلك أن يواكب عصره، لا أن يقود العصر لمواكبة عقله.

أكتب اليوم عن موضوع ليس من باب التملق أو المدح، إنما من منطلق النظر بإمعان في الشخصية المقصودة، وبحث دقيق في الخطوات التي سلكها منذ صعوده في المشهد السياسي بالمملكة العربية السعودية. التقيته بضع مرات، قبل سنوات، إبان كان يعمل مع والده ووالد الجميع الملك سلمان، حين كان أميراً للرياض. إذ كان يُملي عليّ عملي كصحفي ذلك، وليس كوني شخصية اعتبارية.

وكنت أخرج بعد كل لقاء حتى ولو من بعيد، بالتأكيد على عمق مدرسة سلمان بن عبد العزيز، الوالد.. والحاكم، وهذا يتضح من خلال النظر لكل سلالته. لذا كتبت قبل أسابيع هنا عن أن الأنظمة الملكية ليست عبارة عن أنظمة فقط، بقدر ما هي مدارس حكم، كل تفاصيلها محسوبة بدقة متناهية. واليوم اندفعت للكتابة عن هذه الشخصية، وذلك له مسببات، أهمها الذي لا يزال عالقاً في ذهني، بالنظر إلى الصورة الكبرى التي رُسمت في الرياض قبل أسابيع. وأقصد القمة السعودية- الصينية، والقمة الخليجية- الصينية، والقمة العربية- الصينية.

ومنذ ذلك الحين تبادر إلى ذهني مجموعة من الأسئلة، البعض استطعت الإجابة عليه في مقال مضى، تناول الثقل السعودي في جلب محورين صيني، وعربي. وقد كان هذا المشهد مثار أسئلة أخرى، أبرزها، كيف تمكن ذلك الشاب من جمع كل هذه الأقطاب، في وقت واحد، وفي مكان واحد؟ والجواب على هذا السؤال لا يستدعي التفكير بعاطفة منبعها الإعجاب الشخصي، إنما بحاجة إلى النظر بعمق معين لفهم ما يدور على الساحة، وما يمكن أن يدور.

والاستنتاج الذي خرجت به، هو أن محمد بن سلمان كسر نمط التفكير العربي الأحادي، الذي يدور حول المصالح الآنية والوقتية، والمكانية. كيف؟ بمعنى أن الرجل لم يفكر في بلاده فحسب، بل تجاوز ذلك بكثير، حين رغب بأن تنتقل عدوى التنمية والإصلاح خارج حدود بلاده؛ لتصل للعالم العربي. وهذا نتيجة عروبته وإخلاصه لمحيطه، حسب ما تلقى في مدرسة والده. والدليل، الكم من الرؤساء والمسؤولين العرب، الذين حضروا القمة مقابل رئيس دولة، يمكن وصفها بـ«مصنع العالم».

لكن الدخول مع التنين الصيني في شراكات عميقة تلقي بظلالها الإيجابية على العالم العربي، ليست بلا ثمن، إذ تتطلب بعضاً من الأمور. ما هي؟

أولاً: الوطنية واستبعاد الأهداف الشخصية.

ثانياً: وضع المصلحة العامة فوق كل شيء بما في ذلك الخاصة.

ثالثاً: محاربة الفساد والفاسدين. رابعاً: الإقدام وعدم الارتباك الذي يحول دون تحقيق النتائج المرتبطة بتقدم المجتمعات والأوطان. خامساً: العمل على إصلاحات تستبعد الفئوية، والنفعية، على حساب بناء مؤسسات الدولة. سادساً: انزواء الجميع مهما كان وضعه الاجتماعي أو الاعتباري، تحت طائلة الدولة، والقانون. وهذا بالمناسبة ما طبقه محمد بن سلمان على مرأى ومسمع العالم بأسره.

والسؤال، لماذا التوجه السعودي الذي يقوده محمد بن سلمان نحو الصين، بمقابل وجود الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وهي الدول التي يمكن التوسع في بناء مصالح مشتركة معها، بهذا الحجم؟ الجواب، الجميع حلفاء والشراكة قائمة بالفعل مع تلك الدول. لكن لكل حليف مميزاته الخاصة. فالجمهورية الصينية لها طبيعتها التي تتحلى وتمتاز بها، كالالتزام بالعهود والمواثيق، وانصراف سياستها عن التدخل في شؤون الآخر، وعدم الفكير خارج حدود صندوق المصالح، والابتعاد عن التفكير عن منطق القوة «ونحن لسنا ضعفاء أمام أي أحد». وهذا يؤكده عامل ابتعادها عن كل شيء، على حساب العمل، حتى تبوأت المرتبة الأولى على مستوى العالم في الصناعة.

ومن ناحية أخرى، فلك أن تبحث يا صديقي عما يسمى «مبادرة الحزام والطريق» التي يتبنى محمد بن سلمان تفعيلها، وهي عبارة عن مشروع ضخم طويل الأجل، سيعم نفعه جميع الدول العربية، إذ تشكل حزاماً برياً وبحرياً، ينطلق من الصين مروراً بدول المنطقة، وصولاً إلى أوروبا وروسيا، وأبعد من ذلك. وعلى ذكر ذلك، فيجب القول إن بنك «مورجان ستانلي» وهو أحد أهم البنوك العالمية، قد توقع أن تصل النفقات الإجمالية للصين على هذه المبادرة، ما بين 1.2 و1.3 تريليون دولار، وذلك بحلول عام 2027. فلك أن تتخيل حجم الفائدة التي ستحصل عليها دول ما يمكن تسميتها «دول الممر».

وبناء على تلك الأرقام المُخيفة، يجب الانتباه إلى أن ذلك، سيعود حتماً بالفائدة على خزائن تلك الدول، لكنها في المقابل ستحقق أهدافا جانبية أو ثانوية، كتوفير فرص العمل، وهو الأمر الذي سيعود بنهاية الأمر بالقضاء على معدلات الجريمة، وتوفير الأمن الاجتماعي والإنساني، ناهيك عن إحياء بعض الأجزاء من تلك الدول، بعد أن أصابتها الوفاة.

أتصور أنه يمكن استخلاص أن محمد بن سلمان، تمكن من الابتعاد عن منطقية التفرد القائمة على تحقيق المصالح لبلاده على حدة، بدليل دفعه للجميع في المنطقة العربية للاستفادة التي تقود إلى تنمية المجتمعات وتحقيق مصالح الشعوب، من خلال إقناع جميع من حضروا تلك القمم بلقاء عملاق الصناعة العالمية، وهذا لن يكون من دون كسر حاجز التردد والخوف من الحليف الواحد، وهذا ما حدث.

التاريخ العربي مليء بالرموز ممن قامت رمزيتهم على دُخان المدافع والدبابات

وهدير الطائرات. وتاريخنا الحديث بحاجة إلى مُصلحين يصنعون الأرشيف القادم بتنمية المجتمعات بالعلم، والتنمية، لا بالدماء. وهكذا يفكر محمد بن سلمان.