نظر علينا، بعض المنتسبين للعلم الشرعي في فترة مضت، أن كل مسلم بحاجة لطالب علم شرعي واحد على الأقل، ليكون معه في سكناته وحركاته، حتى يعرف ربه ونبيه ودينه بالطريقة الصحيحة، وهذا يدعوني إلى أن أتساءل: بعد كل هذا التطور العلمي والمعرفي والفكري، وتقدم تقنيات استرجاع المعلومات، وبعد هذا التقدم الهائل في مجالات الحياة المختلفة، ومنها المجالات التشريعية والقانونية، وبعد استقرار التعليم الديني في مناهج التعليم، وفي أساس التربية الأسرية، هل ما زلنا بحاجة فقيه أو مفت. يقول لنا افعل أو لا تفعل؟!

وكتوطئة لما أريد قوله، أنوه بأن ثمة افتراقا واتفاقا بين الإسلاموي (الصحوي) والشيخ (السلفي)، فالسلفي يهمش الموضوعات السياسية، ويؤكد مبدأ طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، وهذا ما يجعل السلفية مناقضة للصحوية في أذهان الكثير، غير أن المشترك بينهما كبير، والاختلافات في حقيقتها شكلية، والانسداد الفكري واحد، فالجذر المحرك للإسلاموية (الصحوية) كامن بشكل عميق في الفكر السلفي، ومن هنا نفهم تذمر وتبرم بعض الرموز السلفية من بعض القرارات الرسمية، ولو بالتعريض لا التصريح، ونفهم استمرار وجود خطاب التزمت والتشدد المؤدي للتطرف بالتالي الإرهاب، لأنه وبكل بساطة الخطاب الذي يحاول إزاحة خطاب الإسلاموية من الوجدان المجتمعي، هو خطاب سلفي انطلقت منه الصحوية ذات يوم.

ويمكن أن نضع ثلاثة محددات للخطاب الديني لدينا، وهي: اجتهادات الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مسائل العقيدة، والفقه الحنبلي وفكره في الفروع ومصادر التلقي، واختيارات ابن تيمية في كل ما سبق، وهي ذات المنطلقات التي ينطلق منها الصحوي، لكنه يغيب منها الجانب الذي يقوض عمله، ويعطله للوصول إلى هدفه، ومن هنا وقع السلفي في مأزق كبير، حينما حارب رموزه وأفراده وغوغائه على حد سواء أشخاص الصحوة، ولم يحاربوا الفكر الصحوي، إلا في مسألة أو مسألتين فقط، لتطابق الفكر بين التيارين بشكل كبير، خصوصاً في المساحة التي يعانيها المجتمع السعودي، وهي التشدد والتطرف في الفتوى، والرأي الفقهي.

ومن هذا المنطلق أقول: المشايخ في مجتمعنا ومن البدايات الأولى، وإلى قبيل سنوات، مثلوا القالب البدائي لمؤسسات المجتمع المدني التي ترعى شؤون الناس، فيقومون بإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، ومن خلفهم دعم ولي الأمر، بخاصة أن الزكاة -كمصرف شرع غالباً- يوضع في أيدي المشايخ. وبعد اكتمال مؤسسات الدولة أضحت شفاعة الشيخ مقدمة على كل شيء، ومصدر ثقة مطلقة، لتقديم العون للناس، ويضاف إلى ذلك أن السياسي أعطى احتراماً ومكانة للشيخ لا يعلوها مكانة، مما ولد في الذهنية المجتمعية لدينا مكانة خاصة للمتدين، ولو لم يكن قاضياً أو طالب علم، كما أن قدسية الدين انتقلت منه إلى المشايخ، فأصبحوا مقدسين، ونالوا هالة من التبجيل والإجلال جعلتهم مصدقين إلى أبعد حد، وانتقلت هذه الهالة إلى من شابههم في سمتهم ولباسهم، كما أن ثمة تصورا في مخيال الناس، جعلهم يظنون أن اتباع الشيخ عصمة من الزيغ والضلال، ولو لم يقولوا بذلك صراحة، ومنها المثل الشهير: (خل «بمعنى: دع» بينك وبين النار مطوع)، هذه الإشارة الثقافية المتوارثة عبر مثل سائر، توضح وظيفة الشيخ في الذهنية المجتمعية لدينا، وهنا يجب أن نعود إلى فكرة أصيلة في العقائد الإسلامية، في مسألة العبودية وهي وجود واسطة بين العبد وربه. والشيخ حينما يكرس لنفسه مكانة وسلطة خاصة بوصفه محتكراً لحق تفسير الدين، فهو يعود بنا إلى نقطة تجاوزها الإسلام، حينما اعتبر أن المسلم لا يحتاج إلى وساطة كهنوتية من أحد بعد اكتمال الرسالة، وعودة هذه المعضلة في الزمان المتأخر ومن بعد المئة الثالثة تقريباً، واستمرار تفاقمها إلى اليوم، يجعلنا نطرح مثل التساؤل الذي ذكرناه آنفاً.

والشيخ الذي يرى نفسه والعالم من حوله من الزاوية الدينية بمسلماتها ومفاهيمها، ترسخت مكانته في العقلية السعودية، من خلال احتكار تفسير الدين، مما جعل وظيفته السيطرة على عقول الناس باسم العقيدة، وهي وظيفة قائمة على خلق الاتباع واستقطابهم بالمقام الأول، خلافاً لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته من مهمة تبليغ رسالة الله -عز وجل- إلى الناس، وما كان عليه القرون المفضلة من بعده الذين كانوا ينقلون تعاليمه في الدين والأخلاق، دون أن يكون لأحدهم رأي خاص منفصل عن جوهر الإسلام، بالتالي يفتي وفقاً لمصالحه الخاصة أو رؤيته الفردية، ويستقطب حول رأيه ورؤيته الأتباع.

ومعضلة تفسير الدين، كانت السبب الرئيس في تشييخ المتدين، إلى درجة أنه جعل نفسه شريكاً للحاكم كما في تفسيره لمفهوم (أولي الأمر) في القرآن الكريم. وهذه المعضلة أوجدت حالة معرفية غريبة جعلت الشيخ يتقبل كل الأسئلة، ويجيب عنها بلا تردد أو وجل، بما في ذلك السؤال حول السياسية والاقتصاد والاجتماع والتربية وعلم النفس، إما بغرض إظهار سعة علمه، أو بغرض إثبات أن الإسلام يقدم إجابات لكل شيء، مما جعل مكانته تتمدد وتتعمق في العقل المجتمعي لدينا، مما أتاح للشيخ أن يقوم بدور محوري في تشكيل أنماط من الوعي منطلقاً من رأيه الذي تطور بالتراكم ليصبح طريقة متبعة، وبتعدد الطرق والآراء صارت كل طريقة تلعن أختها، الأمر الذي أتاح للمتطرفين والتكفيريين والانتهازيين أن يجرونا إلى حرب إلغاء معنوية، أدواتها الاغتيال المعنوي، وإقصاء الغير، وحرب فعلية أدواتها القتل والتفجير، بعد أن أنتجوا جهلة تحولوا إلى «جهاديين» في أكبر إساءة للإسلام.

عموماً، ليس هناك من دور يقوم به الشيخ لا يستطيع المسلم أو المسلمة القيام به، وما نحتاج إليه اليوم هو أن يكون العمل الديني في مجال الإفتاء من خلال مؤسسة دينية مرجعية، يقوم عملها على البحث والاجتهاد الجماعي لمجموعة من العلماء، وليس شيخاً يقول برأيه فيضل أو يخطئ، أو يؤثر عليه ما يؤثر على الإنسان، وما يطاله من الأغراض الشخصية التي تبعده عن الحياد، والأمانة العلمية في سبيل منفعة، أو في سبيل حزب أو طائفة أو مذهب.

أخيراً. يقول الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم: «رجال الدين ليسوا نصابين، ولكن النصابين تحولوا إلى رجال دين».