لم يكن مضحكًا لي بقدر الأسى الذي أصابني، وأنا أستمع لإجابة أحدهم حول مركزه للدراسات، الذي هو عبارة عن «أكاونت على تويتر»، ومكتب مهجور إلا من سكرتير عربي بدوام ليوم واحد، وغياب بقية أيام الأسبوع (وإن كنت عاوز الأستاذ كلمني موبايل)، ذكر هذا «الأحد» الذي لا اثنين ولا ثلاثاء بعده، أنه أنشأ المركز من أجل التمويل، وإن لم يأتِ التمويل فهو «برستيج»، تصوروا!

عمومًا، في الوقت الذي يتزايد فيه ثقل وأهمية السعودية على مستوى العالم، تتعاظم أهمية وجود مراكز أبحاث ودراسات واستشارات إستراتيجية، وبيوت خبرة، لدراسة الواقع، واستشراف المستقبل، والإسهام في دعم صناع القرار في القطاعات الحكومية وقطاعات الأعمال، بالدراسات والأفكار الناتجة عن إعادة إنتاج المعرفة والتعاطي معها، للخروج بمشروعات بحثية تخدم التوجهات السياسية والاقتصادية والحضارية بشكل عام.

ولا يخفى ضعف دور مراكز البحوث والدراسات في السعودية والعالم العربي، سواءً في مجال الدراسات الاستشرافية أو في مجال المساعدة في بناء السياسات الرشيدة ودعم القرار الإستراتيجي، وهذا يتضح جليًا حينما نستعرض قائمة أكبر 25 بلدًا في العالم، من حيث عدد مراكز البحوث والدراسات، التي تغيب عنها جميع الدول العربية، في حين تحضر إسرائيل وإيران بأعداد كبيرة من المراكز المختصة.

وبحسب صحيفة «الوطن» السعودية (عدد: 13 فبراير 2020)، فقد أشار التقرير السنوي «لمعهد لاودر» لبحوث السياسة الخارجية في جامعة بنسلفانيا (2020)، بشأن تحديد أفضل مراكز البحوث على مستوى العالم، إلى انخفاض ترتيب السعودية على المستوى الإقليمي، إذ تمتلك إيران مثلًا 64 مركزًا بحثيًا، وإسرائيل 67 مركزًا تصوغ سياساتها في جميع المجالات، إلى جانب وجود 53 مركزًا في مصر، و64 في تركيا، و31 في العراق، و28 في فلسطين، و22 في اليمن، و21 في الأردن، فيما ضم التقرير 5 مراكز بحثية فقط بالمملكة.

وفي دراسة: «مراكز البحوث والدراسات السعودية ودورها في تحقيق رؤية 2030»، التي قام بها الباحثان أحمد العسيري، والدكتور حسين الحسن، وتعد الأولى من نوعها بالمملكة، التي استغرق إعدادها أكثر من سنتين، وتدرس الواقع الفعلي لمراكز الأبحاث في السعودية، توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج، أبرزها وجود طاقم إداري كبير في مراكز البحوث مقابل عدد قليل من الباحثين ومساعديهم، بعكس المفترض، إضافة إلى ضعف الموارد المالية، وتواضع جهود الترجمة في مراكز الأبحاث السعودية، كما أشارت الدراسة إلى أنه على الرغم من الكمية الكبيرة لمراكز البحوث في المملكة، فإنه نادرًا ما نجدها ضمن قوائم تصنيف المراكز المشهورة عالميًا، فضلاً عن عدم وضوح دور غالبية المؤسسات البحثية السعودية، الذي يمكن أن تقدمه للمساهمة في تحقيق رؤية المملكة 2030.

وأوصت الدراسة بضرورة تفعيل دور مراكز البحوث والدراسات والمعلومات واستطلاعات الرأي، وتكامل جهودها وتنسيقها لتحقيق أقصى فائدة مرجوة منها، وإنشاء جهة تنسق بين مراكز البحوث في جميع المجالات، وأهمية توطيد العلاقات والتعاون مع مراكز الفكر العالمية.

مراكز ومؤسسات الدراسات والبحوث، تشكل اليوم مصدرًا مهمًا وحيويًا، ولا يمكن اتخاذ قرار موضوعي يحظى بالقبول والإجماع وتكون نتائجه مرضية ومتوقعة وإيجابية، دون إجراء بحث معمق متعلق بالقضية المراد إصدار قرار تجاهها، قائم على دراسة وبحث حيثياتها بشكل موضوعي كامل وشامل.

والملاحظ عندنا في السعودية ندرة نفع مثل هذه المراكز والمؤسسات، على كثرتها، حتى المتعلق منها بالأبحاث والدراسات واستطلاعات الرأي خصوصاً ذات الطابع السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي.

وتتركز أهمية مثل هذه المراكز المتخصصة في البحوث والدراسات الإستراتيجية، حينما تقدم خدمة مهمة لصانعي السياسات، وذلك بالقيام بإجراء الدراسات والأبحاث، وصناعة التقارير، وتنظيم المؤتمرات، وإصدار الدوريات العلمية المتخصصة في مختلف الشؤون والمجالات والقضايا، كما أنها تقدم تحليلًا عميقًا للقضايا السياسية الدولية، وتقدم تقارير ومعلومات غنية تفيد الأفراد والكيانات، كما أنها تتيح مجالًا واسعًا لأرباب الخبرة المتقاعدين في مواصلة دورهم وخدمة بلادهم من خلال المشاركة في نشاطات تلك المراكز، سواء بالبحث أو المشاركة في الندوات والمؤتمرات؛ لتقديم رصد وتحليل للظواهر الطارئة، وتقديم رؤية استراتيجية تخدم متخذي القرار.

ومن هنا يتبين سر اهتمام كثير من دول العالم في الغرب أو الشرق، بإنشاء مثل هذه المراكز، حيث لا يوجد بلد فاعل على مستوى العالم، إلا وقد أنشأ عددًا جيدًا من مراكز البحث والدراسات الإستراتيجية، سواءً كان تابعًا لجهات حكومية أو كان مستقلاً أو كان تابعًا للمؤسسات الأكاديمية.

وغالبًا تكون هذه المراكز هي منطلق القرار في الإدارات التنفيذية الغربية على أي مستوى، أما في العالم العربي، فيتم الاعتماد غالبًا في رسم السياسات على رؤى نشأت إما في عقول الموظفين المستشارين، أو بناءً على ما يصلها من معلومات أو دراسات من مراكز الدراسات الإستراتيجية الدولية في أوروبا وأمريكا أو ما يصلها من منظمات دولية مثل: البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو منظمات الأمم المتحدة.

فالمنطقة العربية اليوم تفتقر إلى مراكز أبحاث ودراسات، تنظر وتقدم التوصيات والدراسات الاستشرافية؛ لتجاوز مشاكلها، وتعمل على توضيح الغموض وشرح ملابسات ملفات كثيرة محل جدل في المنطقة، التي تقدمها مراكز الأبحاث الغربية وفق أجندتها الخاصة، وفي الأغلب بعيدًا عن الحيـادية والموضوعية، والتجارب أثبتت أن الاعتماد على قرارات جماعية علمية مدروسة أفضل من الاعتماد على قرارات فردية أو الاعتماد في كل مناسبة على بيوت الخبرة الأجنبية وحدها، فأغلب تلك البيوت لا تعرف أوضاع البلد ومشاكله وجذوره، وهي غالبًا تعكس أجندات قد تخدم مصالح أخرى مختلفة أو متقاطعة مع مصلحة الوطن، كما أنها أحيانًا تعتمد على التقارير السابقة دون أي تحديث في المعلومة والتحليل، أما مراكز الخبرة الوطنية فسوف تكون أكثر قربًا وأكثر موثوقية، خصوصًا إذا اعتمدت على أفكار وآراء خبرات وطنية مؤهلة مخلصة ممزوجة مع آراء خبراء أجانب، ومستفيدة من تجارب دول أخرى ناجحة.

أخيرًا، مراكز الأبحاث والدراسات أصبحت تمثل أحد الدلائل المهمة على تطور الدول، ومدى تقديرها وتقييمها للبحث العلمي واستشراف آفاق المستقبل؛ وفق المنظور المعرفي لتطور المجتمعات الإنسانية.