طوال الأيام الأخيرة كانت تدور في رأسي موسيقى «القدّاس التأبيني لبيروت» التي كتبها وعزفها رامي مرسيل خليفة برؤيوية استباقية للانهيار الحاصل وضمّنها آهاته السيمفونية الحزينة. لا يمكنك أن تغالب دموعك وأنت تستمع وفي ذهنك مئات ألوف المآسي ومشاهد انفجار مرفأ بيروت والتنكيل المستمر بأهالي الضحايا. في الأثناء كانت تتردّد في أذنيّ مرّات ومرّات كلمات الوالد «عبّاس» لابنه «فضل» في إحدى حلقات «بيروت 6:07»، المسلسل المستوحى من آلاف القصص الواقعية في خلفية انفجار المرفأ. لام الوالد ابنه لأنه لا يبحث عن عمل حقيقي بدل أن يسترزق ببضع ليرات ليشارك مع آخرين في إحراق خيام «17 تشرين» في وسط بيروت، ورد الابن مذكراً والده بأنه سبقه إلى مثل هذا العمل، فاستنكر الوالد الذي يعمل في المرفأ: «نحن كان عنا قضية (تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي) وليس شغل بلطجية مثل الآن». كان مفهوماً عمّن يتحدثان وإنْ لم يذكر «المقاومة» أو «حزبها».

في التظاهرات الأخيرة لأهالي ضحايا الانفجار حملت إحدى السيدات لافتة تسأل «لم لا تطلبون وفيق صفا (مسؤول الاستخبارات في ميليشيا»حزب إيران/ حزب الله») إلى التحقيق؟»، إذ لم يعد هناك ما يستوجب الخوف ولا الحذر، وبلغ الغضب حدّ رفع عَلَم لبناني اصطبغ فيه الخطّان الأحمران باللون الأسود. كان المشهد وكلّ ما سبقه وما تبعه وسيتبعه «تأبينياً» خالصاً، فهناك طرف استقوى على البلد ويعمل على هدمه، دولة ومؤسسات، مالاً واقتصاداً وعلماً وثقافة، ويُقال إن «حزب إيران» طرفٌ «محلي» مع أنه أقرّ علناً بأن كل أسلحته وأمواله تأتيه من إيران وليس لديه شيء محلّي سوى إجرامه، بل يُقال إنه ازداد قوة بعدما نجح، بالتخويف والترهيب والتقتيل، في استزلام رؤساء وسياسيين ومسؤولين وقضاة ومجرمين و«بلطجية» لمؤازرته في أقذر ارتكاباته، وقد كان «التيار العوني» على رأس المدافعين عنه من بدايات اغتيالاته السياسية والأمنية، مروراً بقمعه «انتفاضة 17 تشرين»، وصولاً إلى تغطيته وحمايته وجود أطنان نيترات الأمونيوم التي فجّرت المرفأ وقتلت أكثر من 220 شخصاً وتركت مئات المشوهين ودمرت قلب العاصمة بيروت.

إذا لم يكن ما يجري الآن «حرباً أهلية» في لبنان فماذا يكون. وإذا لم يكن «انقلاباً» فماذا يكون. أن يُلام اللبنانيون أو لا يُلامون، الأمر سيّان، لكن هل يُلامون لأنهم لم يحملوا السلاح لحماية حقوقهم وبلدهم وقد رأوا انهياره بأم العين ورأوا إدارة «حزب إيران» وأعوانه لهذا الانهيار. لم تعد هناك أطراف مسلحة غير هذا «الحزب» ولا دول تموّل وتسلّح غير إيران، وهما يستخدمان السلاح لإشعال الفتن ثم لإخمادها، وفقاً لحاجة نظام الملالي. ثار اللبنانيون بسلمية وحضاريةٍ كاملتين على منظومة السلطة/ «المافيا» لكن ميليشيا «الحزب» قمعتهم وهدّدتهم بـ«حرب أهلية» لا يريدونها، وكان واضحاً أن «الميليشيا» خشيت سقوط أداتها المافياوية، بعد انكشاف فسادها ونهبها للبلد فواصلت حمايتها وصادرت في السياق ما تبقى من سلطة لدى تلك «المافيا».

كان «الحزب»/ «الميليشيا» يدير الرئاسة في الأعوام الست الأخيرة وهو يدير الآن «الشغور الرئاسي»، يصادر رئاسة مجلس النواب وقرار تعطيل انتخاب رئيس جديد، يسمح أو لا يسمح لرئيس الحكومة بدعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، وها هو أخيراً يشعل حرباً داخل القضاء ليس فقط من أجل نسف التحقيق في انفجار المرفأ، بل تحديداً للسيطرة على السلطة القضائية والإجهاز عليها. لم يكن خافياً أن لديه فريقاً لإدارة انهيار الدولة والاقتصاد فيما تتهم أبواقه أطرافاً خارجية، خصوصاً أمريكية، بأن كل ما يجري هو «مؤامرة» على «المقاومة». وأصبح مكشوفاً أن لديه فريقاً تحرّك بأوامره لتنفيذ انقلاب داخل القضاء، وسيتأكّد قريباً، كما دلّ بعض المؤشّرات أخيراً، أن لديه فريقاً لبثّ الانقسام داخل مؤسسة الجيش، العماد الأخير لدولة متلاشية.

عُرف المحقق العدلي طارق البيطار وسيُعرف بأنه القاضي الذي اقترب كثيراً من «الحقيقة» في جريمة انفجار المرفأ، وقد تواطأ عليه جميع أزلام «حزب إيران» في السلطة وخارجها، لتكبيله وكفّ يده ومنعه من القيام بواجبه والسعي إلى «قبعه»/ اقتلاعه من منصبه ومهمته. ولماذا يُقدِم «الحزب» على كل هذه الأساليب جهاراً نهاراً لو لم يكن متورّطاً إن لم يكن في التفجير فعلى الأقل بتخزين مادة خطيرة مثل النيترات وبسحب أكثر من ألفَي طن مما كان موجوداً في العنبر الرقم 12. ولماذا تهرّب وزراء سابقون وسياسيّون وعسكريون وقضاة من المثول أمام قاضي التحقيق، فالأكيد أن أحداً منهم لم يشعل فتيل الانفجار مساء الرابع من أغسطس 2020، لكن سؤالاً واحداً مشروعاً كان سيُطرح عليهم: ما الذي جعلهم يتعاملون بلا مسؤولية مع التقارير المفصّلة التي وُضعت على مكاتبهم؟ وأي جواب كان سيستدعي أسئلة أخرى وصولاً إلى الجواب الذي من أجله جمّد التحقيق: علموا جميعاً أن النيترات في عهدة «حزب إيران» وليس مسموحاً لهم الاعتراف بهذه الحقيقة.

وعُرف المدعي العام التمييزي غسان منيف عويدات بأنه قاضٍ ابن قاضٍ، وتمتّع كلاهما بسمعة طيبة ما لبثت التدخّلات السياسية أن شوّهتها ولم يتمكنا من صدّها وإحباطها. لذلك سيُعرف عويدات الابن بأنه القاضي الذي تبرّع بـ«تطيير» التحقيق في «جريمة العصر» مدعياً أنه يدافع عن القضاء ويُفترض أن يكون أدرك الآن أنه قدّم طوعاً لا قسراً أكبر خدمة إلى «حزب إيران»، إذ تولّى إطلاق الموقوفين على ذمّة الملف، ومعظمهم باستثناء عدد محدود ينتمي إلى حلفاء لذلك «الحزب»، بل اتّهم القاضي البيطار بـ«اغتصاب السلطة» بعدما استند الأخير إلى اجتهاد قانوني يسمح له باستئناف عمله وكان ممكناً ردّ هذا الاجتهاد واعتباره باطلاً وغير مقبول... لكن لحظة «الانقلاب» التي انتظرها «حزب إيران» كانت قد حانت وأملت على عويدات إجراءاته الانفعالية الرامية إلى جعل البيطار قاضياً مرشحاً للإقالة لأن استمراره في التحقيق يبقي في يده إمكان إصدار القرار الاتهامي، وفي ذلك خطر يريد «الحزب» استبعاده نهائياً.

قبل لحظة انفجار المرفأ وبعده وحتى الآن هناك مستفيد وحيد: «حزب إيران/ حزب الله». ما لم يكن هذا واضحاً ومُتداولاً في العلن كما في السر فإن التكاذب على النفس وخداع اللبنانيين سيستمرّان. فماذا يُراد أكثر بعدما أوصل هذا «الحزب» الخلاف على التحقيق إلى حافة الفتنة. للمرّة الأولى يتجمّع نواب «المعارضة» ويصدرون بياناً يدعو إلى عدم الرضوخ والمساومة إزاء «الانقلاب المدمرّ» الهادف إلى «تكريس سطوة نظام بوليسي مقيت» في البلد، ويؤكّد العزم على مواجهة الأجندة «الديكتاتورية» الرامية إلى «اغتيال العدالة بقرارات ووسائل فاقدة للشرعية»، لكنه يتفادى أي ذكر لـ«حزب إيران»...

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.