لماذا يفرض الشاعر على نفسه الأوزان الشعرية والقوافي المعقدة والإيقاعات الصعبة التي تجعل من كتابة الشعر متعذرة عند كثير من الناس؟ ولماذا يستغني عن النظم ويجعل قصيدته مثل البناء المعماري غير المتقيد بأي قوانين هندسية؟ أسئلة عديدة كانت محور جدل في عالم الأدب العربي في العقود الأخيرة. فالجدل الطويل بين الثنائيات (القديم والجديد) (الأصالة والمعاصرة) (التقليد والتجديد) أغلبها كان يدور حول مسألة شائكة وهي الهندسة الشعرية في الشعر العربي؟

الجدل الدائر بين الشعراء ونقاد الأدب ليسا جدلا في واقع الأمر بين قديم وجديد أو تراث وحداثة، ومن التضليل القول إنه صراع بين الماضي والحاضر، فالصراع في واقع الأمر هو صراع ثقافات وانتماءات مختلفة، أنه صراع بين الثقافة الأوروبية من جهة والثقافة العربية من جهة مقابلة. والشعر الحر هو أحد الأجناس الشعرية المعبرة عن الثقافة الأوروبية، نشأ في الأوساط الأدبية العربية نتيجة تأثرها بالثقافة الأوروبية. فلماذا يستغني الشاعر العربي عن أدواته وأسلحته الفنية إن لم يكن متأثرا في حقيقة الأمر بثقافة أجنبية، يقول جان كوهن، (نقلا عن كتاب حداثة النص الشعري) لعبدالله الفيفي: «إنه يمكن للشعر أن يستغني عن النظم، ولكن لماذا يستغني عنه؟ إن الفن الكامل هو الذي يستغل كل أدواته. والقصيدة النثرية بإهمالها للمقومات الصوتية للغة تبدو، دائما، كما لو كانت شعرا أبتر».

الشعر الحر هو ابن الثقافة الأوروبية وما تتضمنه من أساطير ورموز وموروثات دينية، فالتحرر من النظم في الثقافة الأوروبية له اعتباراته الثقافية، والعرب منذ العصر الجاهلي لم يفكروا في التحرر من النظم وهندسة الوزن حتى اصطدموا ثقافيا بالموروث الأوروبي. ومن هنا بدأ الشعراء العرب يقلدون الشعراء الأوروبيين لاعتبارات عدة. فالشعراء يكتبون قصائدهم للكشف عن جمال اللغة، وهذا هو الغرض الرئيس من نظم الشعر، الشعراء لا يكتبون من أجل الشكل أو المعنى، فالشكل والمعنى موجودان مسبقا وليس على الشاعر إلا توظيف المعاني والأشكال للكشف عن كنوز اللغة. الشاعر بذكائه وحساسيته يستطيع أن يعبر عما تملكه اللغة من أدوات خاصة وجمال داخلي. ليس مطلوبا من الشاعر أن يطرح أفكارا عميقة أو مواعظ وخطبا تربوية أو يقدم نظريات علمية، وحين نعجب بقصيدة ما فنحن في حقيقة الأمر نعجب بجمال اللغة، لذلك الشعر الحر لا يرتقي إلى مرتبة الشعر لأنه ببساطة يعجز عن إظهار جمالية اللغة وجوانبها الفنية. الشاعر في الحقيقة يقدم لنا من خلال أعماله تفوق اللغة التي ينطبق بها، لذلك نشأ الشعر الحر في مجتمعات ناطقة بلغات جامدة من الناحية الفنية ولا تحمل في بنيتها الداخلية قدرات فنية خاصة تحتمل الأشكال العديدة من الهندسة اللغوية.

هذا يعني بأن هناك لغات شعرية أو لغات شاعرة تحمل خصائص فنية تجعل منها لغة ملائمة لإظهار جماليات اللغة البشرية. وقد أفرد عباس محمود العقاد كتابًا للحديث عن اللغة الشاعرة، يقول في أحد صفحاته: «إن اللغة العربية وصفت بأنها لغة شاعرة لغة شعرية، ليس فقط لأنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وأنها لغة موسيقية تستريح الآذان والنفوس لوقع ألفاظها وأصواتها وحروفها، وأنها تشابه الشعر في قوامه وبنيانه من وزن وحركة وإيقاع. ليس لذلك فحسب، بل لأنها كذلك لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات». كلام العقاد يؤكد أن الشعر ليس إلا هندسة لغوية تتطلب أدوات فنية ليس من المنطق الاستغناء عنها وتحديدا للشعراء الناطقين باللغة العربية.

ثقافة الشعر العربي وموروثاته الحاملة له، ثقافة بسيطة غير معقدة لا تلعب الأسطورة والرموز الدينية دورا بارزا فيها، فالشعر العربي ومنذ العصر الجاهلي كان معبرا عن عالم الطبيعة البسيط وما يقع ضمن نطاق الحواس بعكس الشعر الأوروبي الذي يضمر الأساطير والرموز الدينية ويعتمد لغة التصوف والكشف والتجلي الداخلي، فالأسطورة أساسية في الشعر الأوروبي لذلك يعبر الشاعر الأوروبي عن جمال اللغة من خلال الاستعانة بالأسطورة وتكثيف الصور والرموز ذات الأبعاد الدينية، فقد مثلت عقيدة الخطيئة الأولى في المسيحية -على سبيل المثال- إحدى العقائد الدينية المؤثرة في الشعر الأوروبي، وهذه العقيدة أحد المحفزات النفسية والوجدانية للشاعر الأوروبي، وبسبب طغيان الأساطير والرموز الدينية على الشعر الأوروبي فإنه أخذ ينحو تجاه لغة التصوف والرمزية، وهذه التجربة الشعرية لا يمكن نقلها للثقافة العربية البسيطة التي لا تمثل فيها الأسطورة محركا للوجدان والقريحة الشعرية.