مِما يجدر تدوينه في سياقِ الحديثِ عن أبي العلاء المعري، أنه يُفصِح عن مقاصدِه بأسلوبٍ تناقضي، أو تضادي على أقلِ تقدير، خصوصًا في الموضوعاتِ التي تُقلِق مضجعَ قائلِها أمامَ السلطاتِ بأنواعها، ولعلَ السببَ -أولًا- أنَ الحياةَ نفسَها متناقضة، ومن ثم فنصوص ما يُنتِجه الإنسانُ تخرج بطريقٍ متناقضٍ من جهةٍ ما، كقولِ المعري:

«تناقضٌ مالنا إلا السكوت له/ وأن نعوذ بمولانا من النار».

وثانيًا: لكيلا يكون ثمة منفذ على النص لا ريبَ فيه، حيث ثم من يتربص.

ويتجلى المرادُ حين نسأل: ماذا يعني الإفصاح عند المعري؟ هل هو الوضوح؟ أم النطق بمكنونات النفس بعيدًا عن التعقيد فحسب؟ أم أمر آخر يبتعد أو يقترب من تناقضات الحياة؟ لعل في قول المعري: «نقول على المجاز وقد علمنا/ بأن الأمرَ ليسَ كما نقول»، إذا تعاضد مع قوله:

«فما لي لا أقول ولي لسان/ وقد نطق الزمان بلا لسان» ما يوضح بعضًا من الإجابة.

فمثلا في موضوع (النباتية)؛ نجد أن المعري وُضِع -دون تروٍ- من دُعاتها، بينما السياقُ الذي خرجت به النباتية -بمفهومها الحديث- سياق يفصل بين الإلهي والإنساني، فصلًا يعني أن عقلَ الإنسان مصدر للأخلاق.

كما أن سياقها يقطع الصلة مع كل ما هو حيواني، مرتبط بتغير وعي الإنسان في مقابل مفهوم الحيوان، من خلال وعي التاريخ وحركته.

والسياق القديم الذي عاشه أبو العلاء كان سياقًا إلهيًا مرتبطًا بما جاء في بعض ديانات الهند القديمة التي حَرَّمت أكلَ الحيوان من مصادر إلهية. وحتى في مذهب الطبائعيين -آنذاك- هو سياق إلهي.

وبما أن أبا العلاء أفقه الفكري يتوافق مع النموذج الفكري للعرب آنذاك، فإنه لا يحرمها بالمفهوم الهندي ومن ثم لا يمكنني قول: إنه نباتي لا بالمفهوم الحديث، ولا بالمفهوم القديم/الهندي. وعلامة ذلك أنه يقول:

«رَوح ذبيحك لا تعجله ميتته/فتأخذ النحض منه وهو يختلج» في إشارة إلى حديث: «وليحد أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته».

ومن هنا فإن أبا العلاء أخذَ من المذهب الهندي مفهومًا ذاتيًا، تَوصل إليه بعقله، إذ هو القائل «فكل عقلٍ نبي».

مفاد هذا المفهوم أن أكلَ الحيوان نتيجةٌ لمقدمةٍ ضروريةٍ هي ذبحه، أي إيلام هذا الحيوان، لهذا تركَه أبو العلاء كضرورةٍ ذاتية ما لم يحتج لتغييرها. ومن ثم يأتي سؤال:

هل أبو العلاء لا يأكل الحيوان بالمطلق؟ أم هو لا يأكل ما كان هو فيه سببًا مباشرًا للذبح؟

هنا نجد مرويات عن أسباب أخرى لتوقف أبي العلاء عن اللحم، منها الفقر والحاجة وشدة وقع الحياة عليه. مما يبعده أكثر عن مفهوم النباتيين قديمًا وحديثًا، ويجعله أقرب لمفهومٍ مَعري خاص يجمع بين الزهد والنظرة المزدوجة التي يحددها الواقع، وقد عُرِفَ عن المعري ذلك، قال في أحد رسائله مخاطبًا داعي الدعاة الفاطمي:

«ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارًا، فإذا أخذَ خادمي بعضَ ما يجب، بقي لي ما لا يُعجب، فاقتصرت على فولٍ وبُلسن (العدس) وما لا يعذب على الألسن، فأما الآن فإذا صار إلى من يخدمني كبير عندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين، ولستُ أريد في رزقي زيادة، ولا أؤثر لسقمي عيادة، والسلام».

ومن الملاحظ في هذا السياق أن البوذيةَ لديها مدرستان في النظر إلى هذا الجانب، ما يهمنا منها: أن بوذا وأتباعه كانوا يأكلون اللحم الذي يُقدم لهم من مُضيفيهم إذا لم يَشكوا أبدًا أن الحيوانَ ذُبح من أجلهم. وهذا ما يجعل المرويات تتعاضد لتُخرِجَ معنىً معريًا خاصًا وهو أن أبا العلاء كان رحيمًا بالمفهوم المتعالي، وفي الوقتِ نفسه هو واقعي في تأمل طبائع الإنسان.

يُقال: إن المعري ألف كتابًا على منوالِ كليلة ودمنة لم يصلنا منه إلا بعضه، أسماه (القائف) ذكر ذلك القدماء، وأوردوا منه هذه الحكاية التي تقول «حضرت النملةَ الوفاةُ، فاجتمع حواليها النمل فقالت لهن: لا تجزعن، فقد دخرتُ عند الله دخيرة، من دخر مثلها جدير بالرحمة وذلك أني لم أسفك دمًا قط» وكأن المعري أرادَ بالنملةِ نفسه.

ما علاقة كُل هذا بــ(الصدقِ المؤجل)؟ الصدقُ المؤجل هو كذبٌ آني، لكنه صدق حين ينتفي الواقع عن تناقضه، وهذا ما وقع فيه المعري، في أغلب أموره، لهذا حار الرواةُ فيه. وهنا نُذكر بقوله: «نقول على المجاز وقد علمنا/ بأن الأمرَ ليسَ كما نقول». أما خصومه، وأخصُ تحديدًا ثلاثة منهم، ابن الجوزي، وياقوت الحموي، وابن كثير، فإنهم يكذبون كذبًا مؤجلًا، أي هو صدق آني يخدم اللحظة والمصلحة، والمذهب وواقع السلطة آنذاك، لكنه كذبٌ على الحقيقة، بعد أن تقف الحياةُ عن تناقضاتها المربكة.

التفاتة:

كلما قرأتُ لابن الوردي -الذي عاشَ في القرن الثامن الهجري- أتأكدُ أنه شيخٌ يخافُ من تبعات كلامه، فلديه صراع نفسي بين فهمه لبعض الممارسات السلفية، وما اطلع عليه عند أبي العلاء المعري من مخالفةٍ للنمط المعتاد في تداول الأفكار وتشريحها. فابن الوردي حاول تبرئة المعري ثم عادَ ليقول: «رأيتُ التبري منه أسلم». وقد أشارَ بطرفٍ خَفي نقي بعيدٍ، إلى هذا المعنى الذي أشرتُ إليه؛ وذلك حين قال: «رثى المعري تلميذُه أبو الحسن، علي بن همام بقوله: إن كنتَ لم تُرق الدماء زهادة/ فلقد أرقت اليوم من جفني دما».

التفاتة عن الالتفاتة:

خصوم المعري حاروا في أمره؛ حتى قال أبو الوفاء ابن عقيل: «من العجائب أن المعري أظهر ما أظهر من الكفر البارد». وقصده: إذا كان المتدين يطلب نجاة الآخرة، والزنديق يطلب النجاة في الدنيا، فماذا يريد هذا المعري؟

أما أنا فأسأل: ما الكفر البارد؟ هل هو الصدق المؤجل؟