وَقَعَ الكاتبُ عبدالفتَّاح كيليطو في مأزقِ اللسانِ المزدوجِ، فسعى للتخلِّي عن إحدى اللغتين: إما العربية أو الفرنسية. وبينما هو يُفكِّر: عن أيهما يتخلَّى؟ لمعت في ذهنِه فكرةُ (تخلي الأديب عن أدبه...! وما معنى ذلك؟).

ثم أخذت ذاكرتُه تُدِرُّ النماذجَ، واحدًا تلو آخر؛ مع تقديمٍ وتأخيرٍ، وتركٍ واستعادة؛ ابتداءً بالجاحظِ، والمعري، والزمخشري والحريري، ومرورًا بثيرفانتس والحسنِ اليوسي، وابنِ القارح، وانتهاءً بمحمد المويلحي ثم رولان بارت.

اهتمَّ كيليطو بروايةِ (دون كيخوتي) كثيرًا؛ بوصفها اتخذت لبطلها نمط عيشٍ شبيهٍ بما يُروى في الكتب. وكانَ اهتمامه أكثر في البحث عن مؤلفٍ فَعَلَ مثل ما فعل ثيرفانتس؛ مؤلف الرواية. احتار كيليطو، واستعان بصديقته الباحثة إفانجيليا ستيد؛ فأشارت عليه بالتفكير بلوقيانوس السمِيساطِي. وما أريدُ قوله هنا أنَّ هذه اللحظة -التي كانَ يتذكّر بها كيليطو شيئًا آخر- ذكَّرَتْهُ بما نَسيَه سابقًا، وهو تشبيه فعلِ ابنِ القارح -كما وصفتْهُ رسالةُ الغفران- بـ(دون كيخوتي). وهذا النسيانُ نوعٌ من الإرادةِ اللاواعيةِ في التَخلّي السابقِ عَمَّا كتبه؛ إذ لم يُذكِّره بها إلا فكرة التخلي نفسها.

إلا أنّني سأشارك الباحثة ستيد، وأعرض على كيليطو ما طرحته الفيلسوفة جوديث بتلر في كتابها (موضوعات الرغبة: تأملات هيغلية في فرنسا القرن العشرين)، وتحديدًا في الفصل الأول؛ حيث تعاملت مع كتاب هيجل (فينومينولوجيا الروح) بوصفه سردية تشبه سيرة بطل ينطلق من الظلام إلى الضوء. ونحن أمام هيجل على مسارين: الأول: ما يعتقده هيجل عن ذاته ونظريته. والثاني: ما رأيناه -بالفعل- تاريخيًا. أما الأول فهيجل لن يظن نفسه كدون كيخوتي، الذي انتهى به المطاف بخيبة وتوبة، لكن هل دون كيخوتي كان يظن نفسه مخفقًا عندما بدأ؟ لهذا سيكون إخفاق النظرية الهيجلية يجعلنا نُشَبِّه هيجل نفسه -لا كتابه فحسب- بدون كيخوتي.

وحين أعودُ إلى فكرة التخلي عن الأدب، فإني سأقول: بما أنَّ الحياةَ الجديدة للكاتبِ، هي باكتشافِ ممارسةٍ جديدةٍ للكتابةِ -كما يراها رولان بارت-؛ فيأتي في هذا المعنى محمود درويش بوصفِه مُتَخَلٍّ بارزٍ عن أدبه؛ لكيلا يُقَلِّد نفسَه. عدمُ تقليدِ النفسِ هو ما جعل كيليطو يَنسى. لكنه نَسِيَ أنه يريد التخلي، فقلّد نفسَه. ومعنى ألا يُقلِّد الكاتبُ نفسَه هو أن يظل يبتكر طريقةً جديدةً في الكتابة.

محمود درويش كان دائم الهمِّ بشيءٍ ما -في الكلمات- لا يَدري ما هو؟ هل نتذكَّر هنا قولَه: (خطأ كبيرٌ في القصيدة) أم ننساه؟ لكنّ المهم في فكرةِ التخلّي الدرويشي، هو ما قاله درويشُ في نصٍ من نصوصِه الأخيرة، وهو (بوليفار سان- جيرمان). في هذا النص تظهر لنا شذرات قصيرةٌ منفصلةٌ متصلةٌ، يَختِمُها بقولِه: «رياح الخريفِ تكنس الشارعَ، وتُعلمني مهارة الحذف. الحذف كتابة».

فما معنى أن يكون الحذفُ كتابة؟ هذا السؤال جزءٌ مهمٌ في السؤالِ الأكبر: ما معنى الكتابة؟ ثم كيف نَتَوقّف عن الكتابة؟

الحذف -تداوليًا- معروف، إذ يُمكِن أن أقول: (احذف الحصاةَ) وأريد: ألقِها. أليس في هذا تخلٍ عن الحصاة؟ كنتَ تملك حصاةً، فتخليتَ عنها، ولكن إلى ماذا؟ إلى نوعٍ آخر؟. يُمكن للحصاةِ أن تُغيّر في معالمِ شيءٍ وقَعَت عليه، أو لنا أن نَتخيّل أشياء أخرى متعددة من جَراءِ انتقال الحصاةِ من مكانٍ إلى مكان. وحين نحذف كلمةً؛ فإننا نتخلى عنها لصالحِ معنى جديد. وهذا ما يجري في شذرات نصّ (بوليفار سان-جيرمان)؛ إذ يُضمِر عمليةً مخفيّة من الكتابة، فالنصُ طويلٌ جدًا، من جهة اكتنازه بالمعاني الغائبة، لكنَّه وصلنا قصيرًا جدًا، عن طريقِ الكتابةِ بالحذف.

توقفتُ لحظةً -وأنا في رأسِ شارعِ بيتي- حين تذكّرتُ سؤالًا: علامَ يُشير درويشُ بالشارعِ الذي تكنسه رياحُ الخريف؟. ألا نتذكر حي (سان جيرمان) الذي قضى فيه سارتر وبوفوار، أعوامًا، يكتُبان في مقاهيه؟ كانا يُفضّلان مقهى (فلور) ومقهى (دو ماجو) و (بار نابليون)، وكلها تقع عند تقاطع شارع سان جيرمان، مع شارع بونابرت.

ما الذي كُنِسَ من آثارِ الوجودية؟ هل هذا الكنسُ الوجودي هو دعوة للتَخَلّي عن شيءٍ، وابتكار شيءٍ آخر؟ لا بدَّ أن نتوقع وجودية جديدة، هي وجودية درويش، (وجوديةٌ آخرية) تتخلى عمّا سبق.

وهذه المقالةُ التي أكتُبها -الآن- تُضمِر حذفًا. والسلام.

التفاتة:

ما صنعتْه المقالةُ في الأعلى هو نوعٌ من التخلّي عن.. ماذا؟ سؤالٌ ينتظر إجابة مؤجلة لأجلٍ غير مسمى. كما أنَّ المقالة تُنَبِّه عبدالفتاح كيليطو على إرادةِ تَخلٍّ كامنةٍ فيه، بدأت بنسيانِ السببِ الأساس في كتابةِ ما كتب، وهو اللسان المزدوج.

التفاتة عن الالتفاتة:

قابلتُ صديقًا قديمًا، فقلتُ له: «أنا؛ إما أن أكتب أو أفكر بما سأكتب». أجابني: «لدي حَلٌّ سيُنقذك». فأخذني إلى نادٍ لنتمرّن (اليوغا)، قائلًا: «والآن، فكّر بالتنفس وحسب، لتنطلق من قيدِ المادة».

فعلتُ ما طلب، فتخلّيتُ عن التفكيرِ بما سأكتبه الآن، لكنّي فكرتُ بكتابةٍ جديدة، بأسلوبٍ جديد، بحياةٍ أخرى، عن علاقةِ التَنَفُسِ بنسيانِ الوجودِ، أو التخلّي عن الهمومِ والمَشاغِل، والكتابة!.