الكثير من الشعراء لم يفهموا اللغة، وما تنتجه من دلالات، وما فيها من مشتقات وفي داخلها موسيقى وإيقاع. في ذات كل شاعر ناقد يجلس ويتأمل القصيدة قبل خروجها إلى المتلقي، ومن هذا القانون غير الرسمي يولد الشعر، ومعه الخبرة، والتجربة، وهاتان تظهران بهيئة آراء يبوح بهما الشاعر في حواراته بعد مضي عقود شعرية طويلة، فيقدم لنا نقدًا بشعرية مختلفة، وهذا ما نجده في حوار الشاعر العربي الراحل محمد علي شمس الدين في كتابه الصادر مؤخرًا عن دار الرافدين بعنوان (الشعر جرح الغيب) وهو كتاب حوارات بين شاعرين، لا سيما أن المحاور هو الشاعر محمد ناصر الدين، الذي طرح تساؤلات في صميم التجربة الشعرية.

عنوان الكتاب ليس إلا تعريفا للشعر: جرح الغيب. ثم يفصّله بقوله: (في الشعر العظيم القلق الدائم ومن سماته الا يقول اليقين، لأنه آنئذٍ سيطل همسه، فهو يبدأ من حيث ينتهي التاريخ وتنتهي الفلسفة لأنه جوهر آخر كيمياء أخرى، إنه نفسه المرتبط باعتناق المخيلة وجموح اللغة وغموض المعنى).

بهذا الرأي يختزلُ شمس الدين أقولاً، ومفاهميم حاولت أن تفسر الشعر، وجوهره، لكنه كان عصيا على الشرح، لا لصعبوته بل لأنه تعدى مرحلة أن يكون نظماً،أو ألفاظاً ومعنى، وليس تاريخيًا ومعرفة، لذلك ارتبط بالقلق، والتساؤلات، ومثل هكذا تفصيلات تبوح بسر الشعر، والتي يتطلب أن يعرفها الشاعر والمتلقي ومن يبحث بهذه العوالم المجهولة في الباطن، فشمس الدين كان متدفقًا بحواره، محاولًا فكّ الاشتباكات الشعرية والحياتية فهذه الأخيرة ـالحياةـ لحظة هاربة من الشعر وهذا الأخير متربط بها لذلك يرد على مقولة (موت الشعر) قائلًا: ( الشعر هو الكائن في جميع تحولاته. في ولادته وتمزّقه في الأعرس والمناحات في تنفسه وحشرجته في صلابته واقعه وليونة خياله. ولو كان الشعر سيكون مستحيلًا أو ممتنعًا بعد الكوارث لما كان له أن يكون. ولم كان الشعر بعد فاجعة كربلاء). فهذا الخيط بين الشعر والألم، والحياة يدلل على ديمومته، حتى وأن خفت صوته لا سيما في العصر الحالي، نلحظ الكثير من القصائد لا ترتقي إلى مستوى البقاء، ولا تثير التساؤلات، مجرد نظم إن صح التعبير، لأن سر الشعر بات عصيًا على الشاعر، ووسائل التواصل الاجتماعي - بعدد الإعجابات - صارت تغري الشاعر بالكتابة دون تأمل، أو من يهرب من الموسيقى بحجة الحداثة، فيقول بهذا الصدد: (إذا كان الشعر هو زهرة اللغة، واللغة سجل التاريخ والهوية وموسيقى الزمان، فكيف بهذه السذاجة نرمي بخصيصة لغتنا العربية عن جهل على الأرجح بما عليه، في مسألة الوزن لصالح الشعر الغربي الذي لا تتمتع لغاته بما تتمتع به اللغة العربية من خصيصة الاشتقاق الموسيقي. أجبني هل يقرأ القرآن دون الترتيل وهو موسيقى سماع ؟ هل يقرأ أي نص لأي شاعر أو نثر دون الانتباه للموسيقى؟

وعلى هذا قال الجاحظ ( إن الشعر فلسفة العرب الوحيدة. ويقصد الوزن، لكن في الوزن ومشتقاته).

إن هذا الرأي يدعونا لنعيد النظر في علاقتنا باللغة العربية، قبل الوزن، فمشكلة الصراع الحداثوي بين الأشكال الشعرية (القصيدة الموزونة والنثر) - وفق اعتقادي- ليست بالوزن، وأنما باللغة، فالكثير من الشعراء لم يفهموا اللغة، وما تنتجه من دلالات، وما فيها من مشتقات وفي داخلها موسيقى وإيقاع. وهنا يتطلب حضور المعرفة الدقيقة للغتنا العربية، والوعي بها، ومن ثمّ الخوض بصراعات شكل القصيدة، والتي أراها صراعات فارغة المحتوى، لأنَّ الشعر بلغته وتساؤلاته، لا شكله.

هذا الكتاب الحواري - وفق ما أرى- لم يكن مجرد حوار، وإنما تأملات في حال الشعر من وجهة نظر نقدية، وتظهر رؤيته أنها نتاج تجربة، ووعي سابق ينطلق من سؤال ما هو الشعر؟

* كاتبة عراقية