ما أن أُعلن عن وصول وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى جدة، وبدأ الحديث عن حراك سياسي تقوده السعودية في شأن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، حتى انطلقت حملة تشغيب إعلامية على السياسة السعودية، في محاولة بائسة للضغط، بل هو للابتزاز مقابل السكوت، برغم أنّ السعودية لا تنظر إلى مثل هذه الحملات باهتمام، وتواصل الحفاظ على قراراتها السيادية المستقلة، بمعزل عمن له غرض في الاعتراض.

الاستراتيجية السعودية تتحدد في إطار أولوية مصالحها العليا، وقد أعلنت منذ مدة عن حرصها على استقرار المنطقة، ليضحي التنافس بين الدول على الأمن، والتنمية، والرخاء الاقتصادي، بتقديم نموذج رائد، بديلًا عن التفرق، والتحزّب والاقتتال، وما يجرّه من تقسيم، وضغائن، وتحطيم للبنية التحتية، ولكن حتى لا تمرر الدعايات المضادة أفكارها في وسط قطاع قد يجهل قواعد السياسة، أو اللعب على وتر العواطف، على حساب العقول، كان لا بد من مناقشة وفضح الأسس التي يقوم عليها التشغيب.

واحدة من أبرز الاستراتيجيات التي تعتمد عليها الدعاية المضادة تكمن في تعيير المستهدف بتغيَّر مواقفه السياسية، لمحاولة إضفاء طابع التناقض، والارتباك على مواقفه، على أنّ للسياسة قانون أساسي: (لا يوجد أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، هناك مصالح دائمة) والمستجدات تتطلب قراءة تتناسب معها، ومواقف تسعى لحفظ المصالح العليا بما يحتاجه كل موقف من مرونة وانفتاح على الخيارات.

وليس خفيًا أنَّ المنطقة، كالعالَم تتسارع فيها التغيرات، فعلى صعيد العالم، في وقت ما سمي بـ(الربيع العربي) كان هناك إدارة أمريكية منهمكة بالشرق الأوسط، فتسعى لدعم أطراف وإقصاء أخرى، لاحتواء التغيرات المتسارعة في عدة دول عربية، على أنها في هذا الحين تضع نصب أعينها أولوية الصراع الدامي الذي يجري في بوابة أوروبا (الحرب الروسية الأوكرانية) مع الاستعداد لهجوم أوكراني مضاد، وآخر روسي يحتشد في المقابل له، مع الأخذ بعين الاعتبار الصين كعامل كبير في التغير في موازين القوى العالمية، منذ مطالب الولايات المتحدة باتفاق اقتصادي شامل مع الصين، إلى ارتفاع لهجة الخلاف مؤخرًا.

حيث تسلّط الولايات المتحدة الضوء على تايون، وهو ما يزعج الصين، بما يدفعها إلى لغة حازمة في وجه أي خطوة قد تهمل مطالبها في هذا الشأن، وهي تستعرض تحالفها مع روسيا، بتدخلها الدبلوماسي حتى هذا الحين في قضية أوكرانيا، يتبع هذا ما أعلنه الرئيس الفرنسي من أنّ بلاده ليست تابعة لموقف الولايات المتحدة من الصين، وهو ما دق ناقوس الخطر بالنسبة للولايات المتحدة، بأنّ الموقف الأوروبي ليس موحّدًا، ولا مضمونًا لصالحها، وبهذا يمكن القول بأنَّ الشرق الأوسط لم يعد يحتل الأولوية في إدارة بايدن، كما كان أيام أوباما.

انتظار تغير الأولويات في الولايات المتحدة لم يكن واردًا بالنسبة للسعودية، فتحرّكت باتفاقيات مهمة مع الصين، التي كانت راعيًا لاتفاقٍ بين المملكة وإيران شمل عدة ملفات، وبنظرة جيوسياسية، لا يمكن فصل العلاقات مع إيران عن العلاقة مع سوريا، إنما توظف في رؤية شاملة، أتى هذا مع تبعثر أوراق ما سمي بـ(الربيع العربي)، وانفضاض التعاطف معه، مع تكشّف الغايات، والنتائج التي كانت ستدخل المنطقة في نفق مظلم، وكان قادة التنظير والتحريض يريدون نقل التجربة إلى دول الخليج، وعلى رأس هؤلاء جماعة الإخوان المسلمين.

فيظهر بهذا أنّ تغير المواقف السياسية يتناسب مع التغيرات في المنطقة والعالَم، وعند الحديث عن تغيّر في المواقف فإنه ليس حكرًا على دولة، بل هو شامل لكل الدول التي تدخل في اتفاق معيّن، على أنَّ الدعاية المضادة تسعى إلى الخلط بين المواقف السياسية والموافقة الكاملة، حتى الأخلاقية منها على سلوك الدول التي يتم الاتفاق معها، وهذا غير صحيح، فالعالَم كله تحكمه اتفاقات سياسية، وليس معنى هذا أنّ الدول تعطي موافقة شاملة على كل ما يقوم به من تتفق معه.

ومن قديم صالح المسلمون المشركين فيما عُرف بصلح الحديبية، حتى قال سهيل بن عمرو حينها: «لو شهدتُ أنك رسول الله ما قاتلتك»، ومع ذلك تم الاتفاق ولم يرضَ المسلمون بعقيدة من اتفقوا معهم، فلا يوضع الاتفاق حينها بأنَّ فيه موافقة على جميع ما يقوم به الطرف الآخر، إنما هي خطوات لتحقيق المصالح، وتقليل المفاسد، والموازنة بين الشرين أحيانًا، وليس الخيرَ والشرَ فحسب، وهكذا هو عالَم السياسة.