لفيلسوف التجريب الأسكتلندي الأصل ديفيد هيوم «1711–1776l» عبارةٌ مشهورة، يذكُرها مؤلِّف هذه الرواية البديعة في الفصل الذي عقده عنه، وتصلح لأن نبدأ بها هذا العرض النقدي لها: «إذا وقع بين أيدينا أي كتاب فعلينا أن نسأل أنفسنا: هل يحتوي على أي استدلال نظري عن الكم أو العدد؟ – لا. هل يحتوي على أي استدلال تجريبي عن مسائل تتعلق بالواقع والوجود؟ – لا. فليس فيه علمٌ رياضي ولا علمٌ طبيعي، ولا بد أن يكون كتابًا في الميتافيزيقا أو في اللاهوت، إذن فليُلقَ به في النار! لأنه لا يحتوي إلا على سفسطة وأوهام!».

والواقع أن العدد الأكبر من الكتب، التي وُضعت في لغتنا أو غيرها من اللغات، عن تاريخ الفلسفة، ومعظم ما لدينا أو لدى غيرنا من مدخل إليها، لا ينجح إلا في شيءٍ واحد، هو إخراجنا من عالم الفلسفة، والفرار بنا إلى مَشاغلنا اليومية، مع التصميم الأكيد على عدم العودة إليها! ولا يرجع هذا إلى افتقار هذه الكتب للمعلومات الكافية، عن قضايا الفلسفة وفروعها ومسائلها الأساسية، وتطوراتها المختلفة بين الاتجاهات والمدارس والمذاهب، التي لا حصر لها، ففيها بِحارٌ زاخرة من المعلومات التي تُغرِق أمهر السباحين، ولا يرجع أيضًا إلى خلوِّها أو خلوِّ معظمها من العرض الواضح المبسَّط، الذي قد يبلغ أحيانًا حد التشويق المُثير، وإنما يرجع إلى فشلها في إقناع القارئ، بأن أسئلتها الكبرى عن الوجود والمصير والمعنى والحقيقة... إلخ، هي أسئلته هو نفسه التي لا يتوقف في العادة عندها، ولا يهتمُّ بالتفكير فيها كما يفعل الفلاسفة، وأن قضاياها ينبغي أن تكون بالنسبة إليه قضايا حياة أو موت، تبدأ من وجوده الخاص، وتمتدُّ إلى لغز الكون الهائل العجيب، الذي هو جزءٌ حي منه، ونبضةٌ واحدة من نبضات قلبه الكبير، الذي يدقُّ من مليارات السنين، ثم إن هذه الكتب، التي تستحقُّ أن تُلقى في النار، لا تنجح في تعليمه ممارسة التفلسف - أي المشاركة في ملحمة التفكير العقلي - الذي بدأ منذ أكثر من 2500 عام على أقل تقدير، ولن يتوقف أبدًا ما بقي على الأرض إنسانٌ قادر على التساؤل والاندهاش، وهي لا تأخذ بيده لاختيار الطريق الذي يسير عليه في حياته في هذا العالم، ومع الناس الذين يعيشون معه، أو الذين عاشوا قبله، وسألوا أسئلته نفسها وحاولوا الإجابة عليها، وهي في النهاية لا تُساعِده كثيرًا، على اتخاذ موقف نقدي مما يدور حوله من أحداث، وما يُصادِفه من أنماط الفعل والفكر والسلوك.

وحتى الحالات القليلة التي لجأ فيها بعض الكُتاب إلى وضع قصص فلسفية، أو تأليف روايات أو مسرحيات عن بعض الشخصيات المتميِّزة في تاريخ التفكير الفلسفي- سواء من الشرق مثل «بوذا» أو «كونفوشيوس»، أو من الغرب مثل «سقراط» أو «أفلاطون» وغيرهما حتى «نيتشه» - حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكنَّا أن نقول إن القارئ - والقارئ الشاب بوجهٍ خاص - قد استطاع أن يُشارِك في تلك المغامرة العقلية الكبرى، التي نسمِّيها تاريخ الفلسفة، ولا يمكننا أن نجزم بأنهم قد ساعدوه على توجيه حياته توجيهًا حكيمًا، أو إنارة باطنة بأنوار الحكمة، أو حتى على إيقاظه من نعاسه اليومي المضطرِب، لكي يندهش من وجوده ووجود العالم، ويفتح عينَيه ووعيه المُغمِض على تلك المغامرة العقلية المتَّصِلة من ثلاثة آلاف سنة، من عمر الحضارة والإنسان، ولهذا وفَّق المؤلف عندما استهلَّ كتابه بسطرَين استمدَّهما من المقطوعة الخيرة، للقصيدة الثالثة عشرة من كتاب «الضيق»: «إن مَن لا يتعلم كيف يقدِّم لنفسه الحساب عن ثلاثة آلاف عام، فسوف يبقى مُفتقِدًا للخبرة، ويتخبط من يوم ليوم في الظلام».

اختيار هذه الأبيات أعطى إشارة البدء للانطلاق، في هذه المغامرة التاريخية الغامضة والمُذهِلة، التي استمرت كل هذه السنين، وما زالت مستمرة، كما دعا القارئ للانخراط بدوره في هذا العالم العجيب، الذي سمَّاه عالم الحكمة أو «عالم صوفيا».

من هي صوفيا هذه، التي يريد المؤلف أن يجعل عالم الفلسفة وتاريخها، هو عالمها وتاريخها الخاص؟

الكلمة اليونانية الأصلية تُترجَم عادةً بالحكمة، ومحبة الحكمة «الفيلوسوفيا» هي الكلمة التي نُسبت صياغتها إلى فيثاغورس أو هيراقليطس، واكتسبت معناها الإنساني - أي السعي إلى الحكمة لا امتلاكها - منذ سقراط، وترجمها العرب بالفلسفة، وعرَّفوها بأنها: العلم بحقائق الأشياء بقدر طاقة الإنسان.

إلى أي حد وُفِّق الكاتب في الحفاظ على التعجب والاندهاش، الذي لا يستغني عنه التفلسف، والذي يبدأ به ويسيطر عليه في كل خطواته ومراحله؟.

هل وُفِّق في عرض تاريخ الفلسفة، وأهم أفكاره وقضاياه على صوفيا الصغيرة؟ وهل ثمة انتقاداتٌ يمكن أن تُوجَّه إلى هذا العرض، أو إلى بعض الأفكار والهموم، التي بثَّها المؤلف في روايته؟.

أما عن السؤال الأول، فقد نجح المؤلف في إثارة ارتباك صوفيا الصغيرة - وارتباكنا أيضًا، والارتباكُ أو الحيرة وراء كل تفلسف كما قال هيجل - بمجرد وصول الرسالتَين الأوليين إليها، وفي داخلهما السؤالان البسيطان: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟..

فقد أخذت المسكينة تنظر إلى نفسها في المرآة، وتتأمل جسدها ووجهها وشعرها الأشقر، وتسأل عن طبيعة وجودها، هل لها نفس وعقل، أم أن عقلها حاسبٌ آلي كما قالت صديقتها نورا؟.. هل هذه النفس خالدة كما تعلَّمت في دروس الدين؟.. وما نوع هذا الخلود؟..

ما العلاقة بين النفس أو الروح وبين الجسد الذي تراه في المرآة، وتُحسُّ بنبضاته ونموِّه المُفاجئ؟.. من أنا؟.. ويا لَهذا السؤال الذي لم يسبق لها أن طرحته على نفسها!.

لا تنقطع دهشتها، ولا تقلُّ حيرتها، أمام الألغاز الكثيرة التي تحرِّكها وتحرِّك الرواية، عن العالم والإنسان والإدراك، والمعرفة والحياة والموت، والأخلاق والجمال والخير والشر، وعن هيلد أيضًا ووالدها، الذي يؤلِّف هذه الرواية، وتشعر أنه يُراقِبها ويحرِّكها ويحرِّك معلِّمها.

تحقيق رسالة المؤلف والرواية معًا، كان يستلزم بالضرورة أن ينعكس، على طريقة العرض نفسها للآراء والمذاهب والاتجاهات الفلسفية، لأن العرض المُحايد لن يؤدي وحده - في تقديري على الأقل - لا إلى تغيير الوعي، ولا إلى تغيير الواقع، ولكننا قد وصلنا بهذا إلى العرض نفسه لتاريخ الفلسفة، ولا بد من كلمة عنه قبل محاولة نقده.

المؤلف كان حريصًا منذ البداية - بل منذ الشعار الذي استهلَّ به الكتاب، واستمدَّه من شعر جوته - على أن تعرف بطلته الجذور التاريخية، المُوغِلة في أعماق تربتها الحضارية، لتصبح إنسانًا حقيقيًّا، وتتطلع إلى مستقبلٍ.

وقبل أن أتعرض لمسألة الشرق، وإغفال المؤلف له بوجهٍ عام، أرى من باب الإنصاف أيضًا أن أؤكِّد أنه نجح نجاحًا، وإذا جاز لي - كأستاذٍ سابق لتاريخ الفلسفة - أن أقول إن الكتاب لم يحمل إليَّ معلوماتٍ جديدة كل الجدة - باستثناء الفصلَين المتميِّزين عن دارون، وعن أصل الكون والانفجار العظيم - فيطيب لي أن أعترف بأن بعض الفصول، قد قرَّبت إليَّ عددًا من الفلاسفة، الذين كنت أتعرض لهم في دروسي بصورةٍ عابرة، ولم يتسنَّ لي التوقف عندهم، أو البحث فيهم والكتابة عنهم، مثل بركلي وهيجل، بالإضافة إلى روعة العرض، وشموله التاريخي والاجتماعي والفكري، لعصورٍ طالما قرأت عنها وقدَّمتها لتلاميذي - مثل عصر النهضة والباروك والتنوير والعصر الوسيط كله - ولكن لم يسبق لي أبدًا أن عشت فيها، بمثل هذه الحيوية التي لا تُضارِعها سوى حيوية لوحة رائعة، بريشة فنان بارع ونافذ البصيرة.

وأرجع إلى مسألة عرض للفلسفة الغربية، دون الفلسفة الشرقية.

صحيحٌ أننا لا نستطيع أن نلوم المؤلف، لأنه اقتصر في عرضه لتاريخ الفلسفة على تاريخها الغربي، ولا أعتقد أن من الإنصاف أن نتهمه، بالوقوع في شَرك المركزية الأوروبية، أو ما يُشبه ذلك من اتهامات، فقد ذكر بوذا أكثر من مرة، كما تحدَّث حديثًا عابرًا عن تشوانج تزو، وهو من أهم فلاسفة الطاوية في الصين القديمة، وتطرَّق إلى التفرقة بين الحضارة الهندو-أوروبية والحضارة السامية، وذكر فضل العرب في نقل التراث اليوناني إلى الغرب، دون الخوض في أية تفصيلات عن أي فيلسوف إسلامي.

2008*

* كاتب ومترجم مصري «1930 - 2012»