من المهم أحياناً أن نتأمل ما كنا نظن أنه معروف، وأن نسأل أسئلة جديدة، وموجهة توجيهاً جديداً، يفيد هذا الأمر بشكل خاص وعظ رجال الدين ودعوتهم، وما يرون أنه وعظ وتذكير، فهناك إشكالات حقيقية في مجال الوعظ والإرشاد، الإشكال الأول هو وصف الدعاة والوعاظ والمذكرين برجال الدين وتأثير هذا الوصف في معنى ما يعظون به، وفي حقيقة وعظهم، والإشكال الثاني يكمن في الدعم الاجتماعي الذي يحصلون عليه، وأثر ذلك الدعم في الخطر الخطابي على الناس حين يسعون إلى عرض أفكارهم في المساجد، وفي المناسبات الدينية.

أما الإشكال الثالث فيتعلق بمشروعية هؤلاء الدعاة والوعاظ، ما معيار شرعيتهم، ومن أين استمدوها، وإذا ما استمدوا شرعيتهم من المجال الاجتماعي أو المجال السياسي فلماذا؟

إن الدافع في رأيي وراء دعوة الدعاة ووعظ الوعاظ وتذكير المذكرين هو إظهار أنفسهم على أنهم أخبر من الناس بشؤون الناس، وهي رغبة لا يمكن أن أبرئها من الطموح إلى الهيمنة، فضلاً عن ذلك فإن منهجيتهم وطريقتهم في الوعظ والإرشاد والتذكير تشير إلى أن الإسلام دين قائم بذاته معزول عن حياة الناس.

لقد تسبب خطابهم الديني في أزمة دينية متعددة الأطراف كالأزمة في العلاقة مع الآخر، وفي العلاقة مع الحداثة والتحديث، وفي العلاقة بالقيم الإنسانية كالتسامح والتعايش والتعدد، ووثيقة حقوق الإنسان الدولية إلخ.

وأزمة أشد هولاً في علاقة الإسلام مع المجتمع الذي يدين به، وأزمات أخرى لا تختفي واحدة إلا تظهر أخرى.

لذلك فهناك حاجة ملحة إلى إصلاح ديني، وفي هذا السياق ظهر مفهوم الخطاب، للتفريق بين الإسلام كدين، وخطابه الديني، وبدأ المثقفون يتحدثون عن الفرق بين الإسلام والإسلاموية، وبين الإسلام التاريخي والتاريخ الإسلامي، وأصبح الإسلام مثار جدل داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها، فظهر مفهوم فوبيا الإسلام في أمريكا وأوروبا، ومفهوم الإسلام السياسي في الدول العربية والإسلامية، وإلى هذا الوقت ما زال الجدل مستمراً.

لكن الإصلاح المرجو لم يكن سوى استخدام جزء من الإسلام ضد جزء آخر، كاستخدام النصوص التي يفهم منها الاعتدال ضد النصوص التي يفهم منها التطرف، والنصوص التي يفهم منها العلاقة مع الآخر ضد النصوص التي يفهم منها الولاء للمسلم والبراء من الكافر.

ما المخرج من هذه الأزمة؟ أن يتبدل خطاب الدعاة والوعاظ الديني عن الإسلام الثابت إلى خطاب يرى الإسلام صيرورة لا تحافظ على وجود ثابت، بل تتجدد باستمرار بسبب تغير الأزمان، وبسبب تغير ثقافة المجتمعات التي تدين به، فالعلاقة بين الإسلام والثقافات المحلية جزء من إشكالية أكبر في التاريخ الإسلامي هي الدور الذي قامت به ثقافة المجتمعات المفتوحة في صدر الإسلام في تطور الإسلام كدين.

فالفرق الإسلامية مثلاً باعتبارها تغيرات تاريخية حدثت للإسلام التاريخي لا يفسر نشوءها قادة هذه الفرق، ولا الأعراق التي تبنت أفكارها، ولا الجغرافيا التي نشأت فيها، إنما تفسرها هذه المعطيات كلها، أي جميع الظروف التي تحدد السبل الناجعة للفعل والموقف الدينيين، وكما أرى فإن هذه الفرق هي خيارات الأجيال المتتابعة، وحين تبنى الدعاة والوعاظ الآن خياراً دينياً محدداً لجيل عاش في مرحلة تاريخية معينة فإنهم يقيدون الجيل الجديد بخيارات الجيل الأقدم، وهذا غير منطقي، لأن العقول البشرية دائماً ما تفحص الإمكانات القائمة والمحتملة التي تستجيب لمصالح راهنة.

فضلاً عن ذلك فإن خيار جيل قديم غير ضروري ثقافياً لجيل أحدث، بسبب ظهور إمكانات ثقافية إيجابية جديدة تستجيب لها الثقافة الراهنة، ولا يوجد خيار أفضل من خيار، فالأجيال جميعها كما يقول المؤرخ فون رانكة «تقف على مسافة أخلاقية متساوية مع الله».

إن التحدي الذي يثير الدهشة، وفي الوقت ذاته الأقل نقاشاً بين كل التحديات هو أن الإسلام التاريخي، أعني بيت القصيد في خطاب الدعاة والوعاظ والمذكرين، لم يعد هو الإسلام مثلما هو الإسلام في عهد الرسول، وما هو موجود هو تاريخ الإسلام الذي نشأ تبعاً لتأويل نصوص الإسلام الأساسية، وتبعاً للثقافات المحلية للأقاليم التي وصل إليها حرباً أو سلماً، فهناك إسلام للفقهاء وآخر للفلاسفة، وهناك إسلام نخبوي وإسلام شعبي، وهناك إسلام سني وآخر شيعي، وفي السنوات الثلاثين الأخيرة ظهر إسلام قاعدي وإسلام داعشي، لن أهتم بكون هذه أو تلك أنواعاً متطرفة أو معتدلة، صحيحة أم خاطئة، خارجة عن الإسلام أو تمثله، ما يعنيني أنها موجودة وأنها تزداد مع مرور الزمن.

ويبين لنا تاريخ الإسلام السياسي أنه في كل مرة وجدت علاقة بين الإسلام كدين ومصلحة بشرية تكون نوع من الإسلام، فالإسلام كدين هو نتاج اجتماعي، ولأنه كذلك فله أهداف اجتماعية يحددها أولئك الذين يستطيعون استخدام الإنتاج الديني لمصالحهم الذاتية أو مصالح جماعة معينة.

وفي هذا السياق يمكن القول إن الشريعة الإسلامية لم تكن على امتداد تاريخ الإسلام المصدر الوحيد للتشريع أو لاتخاذ القرارات منذ وفاة الرسول، فيمكن للحاكم المسلم بتنوع ألقابه (خليفة، سلطان، ملك إلخ) أن يصدر تشريعات ويتخذ القرارات وفقاً لمصالح معينة، فقد حارب أبو بكر الذين لم يدفعوا إليه الزكاة على رغم وجود الآية (التوبة، 103) التي احتجوا بها، وعلى رغم مراجعته في قرار الحرب لا سيما عمر بن الخطاب فإنه رفض وهو قرار سياسي لإعادة توحيد الجزيرة العربية ما جعله من أهم القرارات السياسية في تاريخ الإسلام، وعطل عمر بن الخطاب في عام الرمادة حد السرقة، وعلق تحصيل الزكاة وهما قراران اقتصاديان مؤقتان لإدارة الأزمة الاقتصادية، وقدم عثمان بن عفان خطبة الجمعة (ربما مروان بن الحكم أو معاوية) لكي يستمع الناس إلى الخطبة بعد أن انصرفوا عن الاستماع إليها منذ عهد الرسول وأبي بكر وعمر.

هذه مجرد أمثلة لقرارات قديمة لم تكن الشريعة مصدرها.

أما الأمثلة الحديثة، فقد ألغت السلطات السياسية في البلدان الإسلامية مؤسسة العبودية في الإسلام من أجل تفادي الضغوط السياسية لحقوق الإنسان، وكذلك عطلت ملك اليمين لتوافقات دولية متعلقة بالاتجار بالبشر، ولأسباب اقتصادية سمحت السلطات بالتعامل بالربا للانخراط في الاقتصاد العالمي.

وهكذا نرى القانون في البلاد الإسلامية مختلفاً عن الشريعة، ففي حين يمنع القانون في العالمين العربي والإسلامي العبودية وملك اليمين، فإن الشريعة تبيحهما، وفي حين تشدد الشريعة على تحريم الربا فإن القانون يتغاضى عن التعامل به، ولا يجرمه.