بعد جائحة كورونا التي هزت العالم كانت دول الخليج هي الأقل تأثرا بالوضع الاقتصادي، وكانت مرحلة العودة والتعافي سريعة مقارنة ببقية دول العالم. وأمام الأحداث التي عصفت بالعالم كان لا بد من وقفة ومراجعة للحسابات والاهتمام بترميم الأوضاع الداخلية لتلك الدول التي أنهكتها الحروب وشتتتها التدخلات غير المنطقية في شؤون الغير. لقد كانت دول الشرق الأوسط ولا زالت أكثر الدول تأثرا بالحروب وتقلبات الأوضاع، وكانت أراضيها مواقع للصراعات العالمية وحروب الوكالة. كما شهد العالم تغيرا كبيرا في ميزان القوى، فالصين صعدت بقوة كدولة لا يستهان بها سياسيا واقتصاديا، وهذا ربما يحرك قوى الغرب لنقل معركة المواجهة من الشرق الأوسط إلى الشرق البعيد. لقد كانت أحداث كورونا والركود الاقتصادي وحروب بسط النفوذ سببا أساسيا في إعادة الحسابات لكل دولة، والتفكير أن الهدف الأساسي يجب أن يكون انتعاشا اقتصاديا ورفاهية للشعوب. وفي هذا الجانب نجحت دول الخليج بصفة عامة والمملكة العربية السعودية بصفة خاصة بالنأي بأنفسها عن أخطاء التاريخ المتكررة، والتركيز على بناء اقتصاد قوي وفاعل، والسعي لردم الفجوات والتصدع الذي قد يهدد هذا التقدم الاقتصادي. إن الاقتصاد الناجح يحتاج إلى بيئة سلام وتعاون، ولهذا كان السعي حثيثا للتخلص من كل الخلافات والعمل على تقارب وجهات النظر. إن العمل على تحسين العلاقات مع دول الجوار يؤسس لوضع اقتصادي مستقر على المستوى الإقليمي. كما أن ذلك الهدف الذي تتبناه المملكة العربية السعودية في جعل المنطقة ذات رؤية واتجاهات موحدة، سيجعل من المنطقة قوة لا يستهان بها في مواجهة القوى العالمية الأخرى. إن بناء التحالفات وإصلاح الخلافات يصلح عددا من الأزمات في المنطقة، ويؤدي إلى إنهاء مصالح المستفيدين من تلك الخلافات. إن عودة سوريا إلى المحيط العربي قد يكون أحد أهم الأزمات العربية التي استطاعت المملكة العربية السعودية العمل عليها من أجل مصلحة الشعب السوري للعيش في وضع سياسي واقتصادي واجتماعي أفضل، لا سيما بعد أن أدركت الحكومة السورية أن سنوات القطيعة الماضية قد تسببت في معاناة إنسانية حقيقية.

لقد كانت القمة العربية في جدة قمة استثنائية وتاريخية لا سيما وهي تعقد في ظل مؤشرات مبشرة وإيجابية. كما كانت المصالحة ومصلحة الشعوب والمجتمعات هي العنوان الأساسي لهذه القمة، ولقد قدمت المملكة العربية السعودية نفسها كنموذج في نهج سياسة المصالحة مع خصومها، ووصلت إلى مراحل إيجابية لم نكن نعتقد في يوم من الأيام أنها ممكنة.

إن الأوضاع التي يعيشها اليمن والصومال وليبيا ولبنان والسودان لن يمكن حلها إلا من خلال المصالحة وتغليب مصلحة الشعوب على مصالح الأحزاب وأطماع السياسة. وأخيرا.. إن القمم العربية وآخرها قمة جدة لا تستطيع أن تفرض على كل الدول قراراتها وتوصياتها، ولكن يظل العقلاء من يعلمون أن تلك التوصيات قد تكون هي السبيل الوحيد للقضاء على تلك الاضطرابات في بلدانهم، ولتحسين الوضع الاقتصادي لمجتمعاتهم، لا سيما وأن استمرار تلك الحروب والمؤامرات سيجعل تلك الأوطان دون حاضر أو مستقبل.