انعقدت القمة العربية في جدّة، تتويجًا للجهود الكبرى التي بذلتها السعودية للتوفيق بين الدول العربية، لتعزيز اللحمة والوفاق بينها، بالتطلّع إلى مستقبل مشترك، وسط تحدّيات مشتركة، ومنها إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وقد تصدّر الأخبار حضور الرئيس السوري بشار الأسد، الذي شارك بكلمةٍ شكرَ فيها السعودية على جهودها لتعزيز المصالحة، والتفاهم، وكان فيما ذكره التحذير من العثمانية بنكهة إخوانية منحرفة.

هذا الإنجاز بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ومشاركة الرئيس السوري في القمة، والحث على المصالحة، والدور السعودي المحوري في هذا، كان مزعجًا للتيارات التي وصلت بها خصوماتها إلى الارتباط بدول غير عربية، ومنها تركيا التي انطلقت طائراتها المسيَّرة فأطلقت نيرانها شرقيَّ حلب مخلِّفة قتلى وإصابات، فاحتفى بهذا الخبر نشطاء الإخوان واعتبروه ردًا على التعرّض للعثمانية في القمة العربية، هؤلاء الذين يرون أنَّ في أيِّ دعوة إلى المصالحة تهديدًا لمصالحهم التي قامت على شبكة من العلاقات المعتمدة على الشرخ السوري، وارتبطوا بدفّة السياسة التركية.

وفي الوقت الذي يرسم هؤلاء المواقف التركية على غير ما هي عليه بغرض الاستهلاك الشعبي، بإظهار تركيا حاميًا للشعب السوري لا أنها تمثل مصالحها! فإنَّ السياسة التركية لم تتحرج من التصريح بحرصها على التقارب مع الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أنها تعدّ أوراقها لتحسين موقعها التفاوضي في الشأن السوري ومنه ملف اللاجئين، وهي أكثر دولة تضم عددًا للاجئين (4 ملايين) أكثرهم سوريون، هؤلاء الذين شكّلت منهم عبر سنوات الأزمة الماضية تيارات موالية لها إلى درجة القتال في ليبيا برعايتها، واحتضنت العديد منهم على أراضيها، فأنشؤوا أكاديميات، وقدّمت لهم منحًا تعليمية، وضمّت استثمارات مالية كبيرة لهؤلاء، فلم يكن سرًا أنها تريد منهم تشكيل ذراع لها في المنطقة العربية، وهي التي اتجهت إليها بعد فشلها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وكان متوقعًا أن تمد يدها إلى جماعة الإخوان المسلمين، تلك التي حملتْ منذ نشأتها حنينًا إلى الحكم التركي، فقد تأسست جماعة الإخوان بعد إلغاء السلطنة العثمانية، وكان من شعاراتها العمل على إعادة الخلافة، وحملت أدبيّاتها سردية تمجد فيها الحكم التركي، واعتبرت الجماعة أنَّ إلغاء السلطنة مؤامرةٌ على الإسلام، في تجاهل تام لتاريخ السياسة التركية في المنطقة، ونافحت عن هذا ولو بتكذيب الوقائع التي تنغّص عليهم الصورة الوردية المزعومة.

ومع انعقاد القمة ودفع السعودية نحو الاستقرار فإنَّ الموجات المعادية انبعثت بدعاية مسعورة، والعنوان المعتمد لها هذه المرة هو إعادة تصوير الأحداث السورية كأنها ابنة البارحة، لا منذ (12) سنة خلت، وتاريخيًا كانت موجات الدعاية المضادة تتشكل عقب فشل الجماعات المتطرفة المتنوعة في تحقيق وعودها، فتجعل من دعايتها ضد السعودية شماعة تعلّق عليها نتائج فشلها، فبعد خروج السوفييت من أفغانستان (1989) انتعشت جماعات التطرف، وفي غمرة الحرب المتبادلة بين أمراء الحرب طبع في بيشاور كتاب المقدسي (الكواشف الجلية في كفر السعودية)!

وكما أنَّ المصالحة اختبار حقيقي لمن يقدّم مصلحة الشعب على مصالحه، فإنها تبعث على الحذر من العديد من الجماعات التي أقامت تفكيرها السياسي على أنَّ السلاح هو خيارها الأوحد، وصبغت مواقفها بهالة دينية، تمنع عنها النقد والمراجعة، لتحمي بذلك نفسها من المساءلة، وما أفرزته من أمراء حرب، واستثمارات ومصالح متعددة موزعة على عدة دول منها تركيا، بثمن مصادرة قرارها السياسي، فالمصالحة تعني حلَّ تلك التنظيمات، وعودة أمراء الحرب إلى الحياة المدنية، مجردين من سلطتهم، وعتادهم، ومصادر دخلهم، والعيش فوق القانون، فتهدد بتصفية تلك الكيانات التي اقتاتت على الأزمة، بإنهاء ما تسبب برفعتهم، ولذا فإنَّ العديد منهم لن يفكروا بمصالح شعبهم، بل بمصالحهم الضيّقة ودفع الصراع إلى أبعد وقت ممكن، بما يرتبط بمصالحهم المتركزة في تركيا.

وبهذا سيتحرك من يرون أنَّ المصالحة يجب أن تكون بقرار من تركيا، لا بتأييد من السعودية والعرب، ليهاجموا السعودية عبر سلسلة طويلة من الحلقات المتنوعة ما بين إعلام، وأكاديميات، وناشطين، وكتّاب، ما بين تصريح وتلميح، مستثمرين في سبيل هذا خطاب متطرف تحريضي، لتتحرَّك فروعهم التي لمزتْ على حياء سابق لتكشّرَ عن أنيابها، مندفعة نحو إرضاء الممولين ليهاجموا السعودية، فهي مرحلة تدق ناقوس الأمن الفكري.