يقول الجابري في كتابه تكوين العقل العربي، إن كثيرا من القراء العرب يرى أن الحقيقة هي ما يقوله آخر كتاب قرأه، ولربما آخر حديث سمعه. وقد يكون الجابري، رحمه الله، محقا في وجود هذا النوع من مشاكل القراء إنما ليس هذا النوع هو الوحيد ولا العرب يختلفون عن غيرهم في هذا الخصوص، بل هناك أنواع أخرى من سوء الهضم الفكري، التي تعيق الفهم والتفكير النقدي والنمو المعرفي،

مثل النوع المعاكس لما ذكره الجابري وهم الباحثون عن التأكيد بدلاً من الاستكشاف، قراء لا يتوسع مستواهم الفكري أو يتغير مهما قرأوا مثلما قال بيرك إدموند «القراءة دون أن تترك تأثيراً مثل الأكل من دون هضم» وفعلاً أولئك الذين لا يستطيعون توسيع آفاقهم الفكرية أو تغيير أي رأي من آرائهم أبداً لا يمكنهم تغيير أي شيء آخر وهذا النوع من مشاكل القراءة سببه توهم المعرفة، التي هي أخطر من الجهل بكثير.

وهناك نوع آخر هم من يقرأون كثيرا ولكنهم يخلطون بين ما يقرأون، ويخلطون بين ما هو قطعي وما هو ظني وما هو علمي وما هو غير علمي ولا يميزون ما هو ديني مما هو تاريخي...إلخ، وهم أيضا لا يستطيعون خلق الروابط بين المعلومات التي يقرؤونها؛ فيبقون في حالة ارتباك وضياع وهذا أسوأ أنواع سوء الهضم الفكري.

وعليه فإن من أهم أهداف قراءة كتاب ما هو توسيع حقل التفكير و الفهم وليس أخذ أو رفض رأي المؤلف، كما يجب أن يجعل القارئ نفسه حكما بين الآراء بتوازن وتأنٍ واستقلالية وليس مطلوباً من القارئ أن يخرج بحكم بمجرد انتهائه من قراءة الكتاب.

ومثلما قال الإمام الغزالي، إنه قرأ الفلسفة في سنتين ثم قضى الثالثة يتأمل ويتفكر (يهضم) ما قرأه في السنتين، وعلى ذكر الغزالي، أن من يقرأ كُتبه يلاحظ أن أفكاره بقيت تتغير وتتوسع مع مرور الزمن، وهذا ملاحظ مع كثير من المفكرين والفلاسفة. التغير والتوسع في الفهم وليس الجمود والدوغمائية ولا هو التخبط والارتباك،

أما بخصوص القراءة للمبتدئين فينصح كثيرون بالبداية بما يثير الفضول، في البدء يقرأ الشخص أي كتاب كما يقرأ كُتب الروايات دون تكلف ذهني كبير فإذا أثارت قضية ما فضوله توسع فيها أكثر وأكثر باتباع فضوله، ولعل أهم من كتب في هذا الموضوع هو الفيلسوف الأمريكي مورتيمر في كتابه «كيف تقرأ كتابًا» وقد قسم مستويات القراءة إلى أربعة مستويات ابتدائية وتفحصية وتحليلية وتركيبية والمستويان الأخيران هما ما يجعلان القارئ يهضم الكتاب بشكل جيد، في المستوى التحليلي يقوم القارئ بفحص حجج المؤلف بشكل نقدي واستيعاب رسالة المؤلف وتقييم تماسك وصحة استدلال المؤلف وتحديد التناقضات والمغالطات، وفي المستوى التركيبي يقوم فيه القارئ بقراءة عدة كتب حول الموضوع نفسه بهدف تجميع وجهات نظر مختلفة ومقارنة الحجج واكتساب منظور شامل للموضوع وفرز نقاط الضعف والقوة والتحيزات في حجج المؤلفين وطبعا هذا كله يحتاج إلى مجهود، فالقراءة المثمرة تحتاج إلى مجهود، والفضول المعرفي هو وقود ذلك المجهود، وبالطبع ليست كل الكتب تستحق ذات المجهود، كما يقول فرانسيس بيكون

«هناك بعض الكتب التي يجب تذوقها، والبعض التي يجب ابتلاعها، والبعض الآخر التي يجب مضغها وهضمها».