يلوح في أفق حياتنا الثقافية في هذه الأيام اتجاه إلى الاهتمام باللامعقول في المسرح والأدب والفن عامة. ولم يعد هذا الاهتمام مقتصرا على كتابة المقالات أو الأبحاث التي تشرح الأسس النظرية للنزعة إلى اللامعقول، أو تحاول إیجاد تفسيرات لأعمال تغلب عليها هذه النزعة، ولا على ترجمة أو عرض مسرحیات أو أعمال أدبية لمؤلفين غربيين ساروا في هذا الاتجاه، وإنما امتد هذا الاهتمام إلى مجال الإنتاج الأدبي والفني المحلي. فظهرت لدى كتابنا المحليين البوادر الأولى لمسرح اللامعقول وأدب اللامعقول وبدأت تظهر دعوة إلى غرس هذا الاتجاه الجديد في تربتنا المحلية، وإدماجه ببيئتنا الثقافية الخاصة.

وفي اعتقادي أن هذا التطور في حاجة إلى تحلیل نقدي يحدد معالمه الحقيقية ويضعه في سياقه الصحيح، ويوضح مدى ملاءمته - أو عدم ملاءمته - للبيئة الثقافية التي يطلب إليه الاندماج فيها، ذلك، لأن اهتمامنا باللامعقول، عندما كان مقتصرا على عرض نماذج أعمال الغير أو دراسات منها: كان أمرا مشروعا لا يثير كثيرا من الإشكالات، بل كان أمرا مرغوبا فيه، إذ كان مظهرا من مظاهر الرغبة في الاطلاع على كل الاتجاهات العالمية وفتح الأبواب لجميع التيارات الأدبية والفنية، ولكن الأمر قد بدأ يتجاوز نطاق التسامح ورحابة الصدر، والرغبة في فهم كل الاتجاهات وتأمل نماذج منها، وبدأ يدخل مرحلة الإنتاج المحلي بما تقتضيه هذه المرحلة من إدماج لهذا الاتجاه في البيئة الثقافية المحلية، وهدفي من هذا المقال هو أن أحدد مدى علامة هذه الدعوة على إنتاج أدب اللامعقول ومسرح اللامعقول محليا لبيئتنا وحياتنا المعاصرة، وللمرحلة الراهنة التي يمر بها تطورنا الثقافي. فالمقال إذن أشبه ما يكون بعملية نقد منطقي نحاول فيها أن نرى مدى اتساق - أو عدم اتساق - هذا الاتجاه الأدبي الجديد مع تلك البيئة العقلية التي يطلب إليه أن يندمج فيها.

إن القضية الأولى، التي تظهر بكل وضوح عند تأمل هذه المشكلة في صورتها العامة هي أن الاتجاه إلى اللامعقول قد ظهر في ظل الحضارة الغربية الرأسمالية. وبوصفه نتيجة ضرورية لهذه الحضارة. فلنحلل إذن عناصر هذه القضية، ولنتأمل الوجه المقابل لها في مجتمعنا المعاصر.


من الحقائق البديهية أن المجتمع الغربي الرأسمالي يؤكد مبدأ الفردية تأكيدا أساسيا. فالقيم الفردية والذاتية لها الكلمة العليا في هذا المجتمع، أما القيم الجماعية والموضوعية فتأتي في المرتبة الثانية، وتستمد من الأولى وتخضع لها فحسب، ومن المؤكد أن اللامعقول يمكن أن يكون له دور هام في حياة الفرد المنعزل، أما في حياة الجماعة المترابطة فإن دوره لا يعدو أن يكون ثانويا، إن كان له دور على الإطلاق، ذلك لأن حياة الجماعة قائمة أساسا على التفاهم وهي تفترض وجود نوع من المعقولية يتم على أساسه الاتصال بين الأذهان، ولا بد فيها من نوع من التنظيم العقلي الذي يتعارض مع ترك العنان للنزوات التلقائية والعشوائية في الأفراد. وعلى ذلك ففي كل مجتمع تعلو فيه كلمة القيم الجماعية، ينبغي أن تتضاءل أهمية العنصر اللامعقول في حياة الإنسان، ولعل أبسط تعريف للاشتراكية هو أنها تغليب للقيم الجماعية على القيم الفردية الانعزالية، أو على الأصح إرجاع كل ما هو رفيع في القيم الفردية إلى القيم الجماعية، مع الاعتراف الكامل بوجود النوعين معا. وهكذا يمكن القول، بوجه عام، إن الأخذ بالأسلوب الاشتراكي في الحياة، وبالتالي في الثقافة، يتعارض أساسا مع الاتجاه إلى تأكيد ما هو فردي وذاتي وعشوائي في مذهب اللامعقول، ومن هنا كان من غرائب الأمور - في رأيي أن يظهر هذا الاتجاه إلى إدخال مذهب اللامعقول في حياتنا الثقافية في نفس الوقت الذي بدأنا فيه ندعو إلى تأكيد فكرة في حياتنا العملية والفكرية.

وكان لا بد من أن نظل محتفظين بنوع من الإيمان بالإنسانية. افتقرت إليه الدول التي ساهمت فى النزاع والحروب، ولم تصل إلينا موجة الجنون التي ولدتها هذه الحروب، ولم تجلب ما جلبته المأساة وويلاتها وعواقبها الوخيمة، ومن هنا فإن النزعة إلى اللامعقول إذا كانت تجد في الغرب أرضا خصبة مهدتها الحروب، فإنها لن تجد في تربتنا المحلية مثل هذه الخصوبة. ولو تأملنا الطابع العام للحياة في الغرب الرأسمالي، لوجدنا فيها صفات تساعد إلى أبعد حد على ظهور الاتجاه إلى اللامعقول. فهذه الحياة عملية سريعة الإيقاع، يسعى الفرد فيها إلى الكسب والتفوق على الآخرين، ويدخل في منافسة مريرة معهم، في كل لحظة من لحظات حياته. إنها حياة خلت من عنصر الخيال والحلم، أخذ فيها هذا العنصر يتراجع وينكمش بالتدريج، فلم يعد له مجال إلا في النوم، حيث تبدأ الصور المكبوتة في الظهور على هيئة أحلام تنطلق فيها تلك الطاقات التي أخمدتها حياة اليقظة القاسية. وتعبر فيها تلك الطاقات عن نفسها تعبيرا مباشرا جيدا، وتعبيرا غير مباشر في معظم الأحيان.

1964*

*أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة «1927-2010»