ترتيب السلطة لأفعالها هو أساس كل تنظيم سياسي أو اجتماعي، فعودة الدولة إلى ما قبل 1979 كما رأى الأمير محمد بن سلمان هي العودة إلى توحيد السلطة والسياسة، وذلك ما جرى فعلاً، فالقرار الأكثر أثراً في الانعطاف الذي تعرض له المجتمع السعودي بمعنى التبدل في المسارين السياسي والاجتماعي في السنوات القليلة الماضية هو إعادة توحيد (بأشد معنى للكلمة) السلطة والسياسة.

من دون شك فما سيلي من التحليل ليس التطبيق المثالي لهذه الفرضية، لكن المهم هو أن أضع هدفاً للتحليل ولكي أحكم لا بد من أن أتورّط أولاً ثم أرى في ما بعد، وستبقى المهمة الأساسية هي التفكير في الصحوة من منظور مختلف، وسأذكر مرة أخرى بأن الصحوة لم تنشأ من وعي الأفراد، ولم تنشأ بسبب الخطاب الديني، بل إنني أرى العكس وهو أن الصحوة هي التي شكلت وعي قادتها وجمهورها، وهي التي ولدت خطابها الديني، ما أريد قوله في هذه السلسلة من المقالات هو بدل أن تكون الصحوة وعياً فردياً للصحويين يعرف أشياءه بشكل مسبق، هناك حياة يومية تكون العلاقة الاجتماعية فيها هي الأولى، والصحوة كظاهرة لم تسبق العلاقات الاجتماعية، ولم تسبق خطابها الديني، ولم توجد قبل الواقع، ستستمر الفرضية على امتداد التحليل الذي سيبدأ مساراً يبدأ بالتفكير النقدي في مقاربات الصحوة.

قلنا في ما مضى إن المقاربة الأولى ترى أن الصحوة نشأت من وعي الأفراد كما هي مقاربات بعض المثقفين الذين يتحدثون في حواراتهم التلفزيونية ومقالاتهم الصحفية عن أثر الصحويين الأفراد كسفر الحوالي وسلمان العودة وعوض القرني وغيرهم، وبشأن هذه المقاربة يمكن أن نقول إن البحث في الصحوة لا يستطيع أن يجعل الوعي الفردي مبدأً خاصاً وملزماً لنشأتها؛ لأن الوعي الفردي مكون واحد من مكونات متعددة، وفي الغالب ترتبط هذه المكونات المتعلقة بوعي الإنسان، وطبيعته النفسية بالمجتمع وليس بالأفراد.

فضلاً عن ذلك لا يوجد ما هو مادي في هذه المقاربة إلا في حدود ترجمة المادي إلى الوعي الفردي، ولأقل أبعد من ذلك؛ أي لا وجود للواقع في هذه المقاربة إلا بوصفه مظهراً من مظاهر الوعي الفردي، متناسية أن الوعي الفردي ينشأ في سياق اجتماعي، ولن نجد وعياً مهماً ظننا نقاءه من الاجتماعي يمكن أن ننسبه إلى الفرد وحده، فالفرد نتاج تفاعل، وعلى نحو أكثر اتساعاً فالوعي الفردي ينتج عن الظروف الاجتماعية التي تكوّن فيها، وهذا ما وافقت على ما تراه هذه المقاربة لكي يستمر النقاش؛ أي أن القصد الفردي سبب أساسي في نشأة الصحوة، فهناك مطلب أساسي لم يتوفر فيها وهو أنها لم تصغ وعي الأفراد صياغة اجتماعية؛ لذلك فما سعت المقاربة لاكتشافه لا يعدو أن يكون تأويلاً من بعد واحد، وهو البعد الذي تسقط فيه هذه المقاربة في الوعي الفردي كل تعقيد العلاقات الاجتماعية، أكثر من هذا لم تتخذ هذه المقاربة وجهة نظر اجتماعية لذلك فلن نفهم الوعي الفردي، وسيظل قصد الفاعل غامضاً من دون أن يُدمج في الكل الاجتماعي، فهذا الكل هو الذي يتيح تجاوز الجزئي المتمثل في الفرد، وقد بقي الفردي والجزئي في هذه المقاربة غامضاً في تفسير نشأة الصحوة؛ لأنها بقيت عند مستوى ما قاله سلمان العودة أو سفر الحوالي أو عوض القرني أو عايض القرني مثلاً، ومن المنظور الاجتماعي لن تظهر دلالة ما قاله هؤلاء الصحويون إلا ضمن الحياة الاجتماعية، وذلك لم يحدث، فهذه المقاربة لم تنتقل من الفرد إلى الجماعة، بدل انتقالها من النصوص إلى مؤلفيها، ومن المؤلفين إلى سيرهم، فالأفراد لا يفكرون منعزلين، بل يفكرون في جماعة طورت لنفسها أسلوباً في التفكير تجاه أوضاع يتميز فيها مركز مشترك، فضلاً عن ذلك، فالوعي الفردي في الدراسات الاجتماعية ينتج عن حياة الفرد الاجتماعية؛ أي أن الوعي ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون ظاهرة فردية.

إذا بلورت سؤالاً تجيب عنه هذه المقاربة فستكون من نوع ما أصل الصحوة السعودية، أو ما سببها؟ وإجابتها كما تقترحه هذه المقاربة هو الأفراد، ومن المهم أن نعود إلى ما أجابت به هذه المقاربة على أنها الإجابة النهائية لذلك السؤال، لنوجه سؤالاً آخر توجيهاً صائباً، وما سأعتبره سؤالاً موجهاً توجيهاً صائباً، مختلف عن سؤال الأصل أو السبب هو في أي ظروف سياسية واجتماعية نشأت الصحوة؟ يفيد هذا السؤال بشكل خاص في مساءلة هذه المقاربة حين ترى أن تحولات مجتمعنا الثقافية والاجتماعية مرتبطة بالأفراد، وأن تاريخنا الاجتماعي والثقافي نتج عن الوعي الفردي، لذلك فقد بدت لي هذه المقاربة ناقصة لأنها تجاهلت السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهناك مجال لم تحلله. صحيح أنني لا أستطيع أن أرفض وعي الأفراد فربما يمثل جانباً من جوانب الحقيقة، لكنني أود أن ألفت النظر إلى أن هذه المقاربة لم تصل في تحليلها الوعي الفردي إلى ما هو أبعد مدى؛ أي أنها نسيت الإطار وهي تشاهد اللوحة.